logo

يتبادر إلى الذهن تساؤل حول سبب اهتمام الحركة الشعبية بما يحدث في دارفور عموماً وبالحركات المسلحة تحديداً وهل هو تكتيك مرحلي أم قضية إستراتيجية تهم الحركة. وللإجابة على هذا التساؤل نعود للوراء لنجد أن اهتمام الحركة الشعبية بمناطق خارج الرقعة الجغرافية لجنوب السودان جاء في إطار التحول الإستراتيجي للحركة بتبنيها لإستراتيجية أيدولوجية أطلقت عليها اسم مشروع...

السودان الجديد، الذي ظلت الحركة تحارب وتقاتل الحكومة في الخرطوم من اجله لمدة 21 سنة، وهو مشروع تلقى تأييداً كبيراً في اوساط شعب السوداني بمختلف قبائلهم وكذلك هو سبب في إنضمام أبطال كل من جبال النوبة والنيل الأزرق الى صفوف الحركة الشعبية وجيشها آنذاك. ولكن بعد توقيع على إتفاقية السلام الشامل، بل بعد رحيل صاحب الرؤية وفكرة مشروع السودان الجيد أصبحت الرؤية غير واضحة لدى كثير من قادة الحركة الشعبية الذين كانوا يستخدمون الكلمة كتكتيك مرحلي للاستعانة ببعض الحلفاء من شمال السودان أبان الأزمات. ويتضح هذا في تخلي الحركة عن تحالفها مع التجمع الوطني الديمقراطي، وإعلانها لدعم إنفصال الجنوب، حيث تركت كل الأحزاب والحركات المنضوية تحت مظلة التجمع عندما تأكد توقيع النهائي على إتفاقية السلام الشامل، فظلت مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق تحافظ على أهدافها مع الحركة الشعبية. و كان المكسب وهدف أبناء النيل الأزرق وجبال النوبة وراء إنضمامهم للحركة الشعبية هو أن يكون السودان موحد على أسس جديدة، ولكن أين تتجه الإستراتيجية بعدما تحول موقف الحركة الشعبية من مشروع السودان الجديد الى موقف يدعى الى إنفصال جنوب السودان عن شماله؟ وما هى نوعية العلاقة التى تربط الحركة الشعبية وأبناء النيل الأزرق وجبال النوبة الآن؟ العلاقة بدأت تتوتر بينهما لعدم وضح الرؤية مما أدت الى نشوب خلافات بينهما ويرى بعض أبناء جبال النوبة أن السبب هو إهمالهم من قبل الحركة الشعبية التي وصل بها الأمر لدرجة اعتقال اللواء تلفون كوكو في جوبا الذي كثيراً ما جاهر بمواقفه المناوئة لسياسات الحركة تجاه منطقة جبال النوبة.ويبدو للمراقب أن كلمتي (المهمشين) والمناطق المهمشة هما أكثر وسيلة للاستقطاب والتحالف التكتيكي الذي تلجأ إليه الحركة الشعبية حينما تعوزها الظروف إلى حلفاء محليين، فبخلاف التجمع الوطني والمناطق الثلاث هناك موقف الحركة من حركات شرق السودان وحركات دارفور المسلحة التي كثيراً ما تلجأ إليهم الحركة الشعبية كلما احتاجت للضغط على شريكها في الحكم المؤتمر الوطني أو حتى على الحكومة المركزية. من أين أتى إهتمام الحركة الشعبية بحركات الدارفور؟ اهتمام الحركة الشعبية بإيجاد حلفاء لها في دارفور اهتمام قديم يعود إلى حوالي العقدين من الزمان حينما أغرت داؤود يحيى بولاد بالتمرد على الحكومة وتسليح القبائل على أسس عرقية بهدف طرد قبائل أخرى على خليفة الصراع القبلي على الموارد المتناقصة بفعل الجفاف والزحف الصحراوي. وحينما أحبطت المحاولة وتم هزيمتها عسكرياً نشطت الحركة الشعبية في الترويج الإعلامي لها مصورة بولاد على أنه أحد شهداء ثورة المهمشين، وهي رؤية تختلف عن مايراه أهل داؤود بولاد في وادي صالح وفي مدينة زالنجي الذين يرون أنه مات وهو يحاول طرد من يطلق عليهم أهل دارفور الوافدين وهم يقصدون بذلك المهاجرين التشاديين التابعين للمعارضة التشادية والقبائل التي انحرفت عن مراحيلها بسبب بالجفاف. بعد ذلك لم تهتم الحركة الشعبية بدرافور ولا بما يحدث فيها إلا في نهايات عام 2002م وبدايات عام 2003م، حيث يذكر تقرير قدمه الفريق حسين عبد الله جبريل الذي كان رئيساً للجنة الأمن والدفاع بالمجلس الوطني آنذاك، أن هنالك طائرات من طراز سيسنا تتبع للحركة الشعبية تحلق في أعلي جبل مرة وهي تمد المتمردين بالسلاح، وذلك التصرف من الحركة الشعبية جاء دعماً لموقفها التفاوضي من ناحية، حيث أن الدكتور جون قرنق صرح أن بمقدور الحركة الشعبية حل مشكلة الصراع المسلح في دارفور، وهو يومذاك لم يتشعب ويستعصى بصورته الحالية. وبعد لقاء الحركة الشعبية بعبد الواحد ومناوي تم تغيير اسم الجماعة المتمرد في دارفور من (حركة تحرير دارفور) إلى (حركة تحرير السودان) وهو اسم يكاد يطابق اسم الحركة الشعبية لتحرير السودان. وعلى خلفية هذه الاتصالات تطورت مطالب المتمردين في دارفور من المذكرة التي عادت بها لجنة الوساطة عام 2002م إلى اتفاق معقد على شاكلة الاتفاق مع الحركة الشعبية وعلى ذات المحاور السلطة والثروة والترتيبات الأمنية. وبعد توقيع الحركة لاتفاقية السلام لم تبد أي محاولة جادة لنشر السلام في دارفور ولم يسمع أحد بمسئول من الحركة الشعبية يزور دارفور، حتى رئيس الحركة سلفاكير ميارديت لم يزور دارفور منذ أن وطأة قدماه الخرطوم بعد توقيع اتفاقية السلام، والزيارة الوحيدة التي قام بها قادة الحركة الشعبية لدارفور كانت ضمن الحملة الانتخابية للحركة الشعبية، حيث قام رئيس قطاع الشمال ياسر عرمان بزيارة لدارفور رافقه فيها إدورد لينو رئيس استخبارات الحركة الشعبية، مما يوضح ما الذي يهم الحركة من دارفور فهي تمثل فقط كرت ضغط وليس اهتمام حقيقي بالمشكلة. لايقف الأمر عند حد التنسيق السياسي أو الاحتواء السياسي لحركات دارفور بل لاتزال طموحات الحركة الشعبية في السيطرة العسكرية على الحركات تخيب كل مرة، فبعد أن أمدت الحركة الشعبية التمرد في دارفور بالسلاح في بداياته حاولت أن توحد الفصائل الدارفورية على الصعيد العسكري تحت حليفها القوي في دارفور الكوماندور أحمد عبد الشافع، والذي تعود علاقته بالحركة الشعبية لأيام كونه أحد الكوادر الطلابية للحركة في منتصف التسعينات، أيام كان طالباً في كلية الاقتصاد بجامعة جوبا، والتي كانت وقتها تتخذ مقراً مؤقتاً بالعاصمة الخرطوم هروباً من جحيم الحرب في الجنوب. وقتها كان المهتمون بالنشاط الطلاب يعرفون أحمد عبدالشافع ككادر خطابي سياسي بالمنابر الطلابية مدافعاً عن سياسات الحركة الشعبية وهم يعرفونه بلقبه (أحمد توبا) وهو لقب لايزال يستخدمه بعض الذين يعرفون أحمد عبدالشافع منذ فترة طويلة ولا يعرف بعضهم حتى بقية اسمه (أحمد عبد الشافع يعقوب ياسي). وكثيرون لا يعرفون أن أحمد عبد الشافع هو الذي كان يمثل حلقة الوصل بين عبد الواحد ومناوي من جهة وبين الحركة الشعبية من جهة أخرى، يعاونه في ذلك رفيقه الأصغر سناً في كلية الاقتصاد بنفس الجامعة وأبن منطقة زالنجي أبو القاسم إمام، الذي أصبح والياً لغرب دارفور بعد خلافه مع رفيق دربه وعرابه في التمرد أحمد تويا. يقف أمر اهتمام الحركة الشعبية بما تسميه المناطق المهمشة فقط على التحالف المرحلي أو بما يمكن أن يطلق عليه التكتيك الوقتي، ولكن غالباً ما يرتبط الأمر بدول خارجية، حيث أن بعض من دول الغربية هم أقوى حلفاء خارجين للحركة الشعبية وهم من نصحوا الحركة بتبني فكرة السودان الجديد بدلاً من قيام الحرب على أساس الشمال المسلم، وذلك لأجل أن بريق كلمة (مشروع السودان الجديد) سيجد صدى لدى كثير من أبناء الشمال، مما يسمح للحركة الشعبية بالتمدد شمالاً، وهو الأمر الذي ساعد الحركة على إيجاد قواعد قوية لها في مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق في أوساط التسعينات وحتى اليوم من خلال ايدولوجيتها المتلفحة بجلباب التهميش ومشروع السودان الجديد. ويؤكد د. عبد الله علي إبراهيم المفكر الشيوعي أن للحركة الشعبية علاقة قوية مع إسرائيل حيث يذكر د. عبد الله في مقال له منشور على موقع الجزيرة الالكتروني (بات مؤكداً أن دعمها بالأسلحة من الولايات المتحدة في منتصف التسعينات كان يمر بإسرائيل ثم يبلغها عن طريق يوغندا وغيرها، ولا يزال هذا التعاون مستمراً، فبعيداً عن ما توصل إليه د. عبد الله فإن السيد ازكيل جاتكوث ممثل حكومة الجنوب في واشنطن صرح بأنه في حال الانفصال فإن الدولة الوليدة ستؤسس علاقة قوية مع إسرائيل. وعلى صعيد حركات دارفور فإن الحركة الشعبية هي التي حاولت صنع علاقة قوية بين مختلف الحركات المتمردة وإسرائيل عن طريق السفارة الإسرائيلية في أسمرا أبان وجود العديد من قادة التمرد في أسمرا. وقد نجحت في مسعاها حيث وفرت إسرائيل السلاح لجبهة الخلاص الوطني التي تم تفكيكها بمجهود دبلوماسي سوداني ليبي فرنسي في فبراير عام 2008م، ومن ناحية أخرى سمحت إسرائيل لعبد الواحد نور بفتح مكتب له في إسرائيل بزعم رعاية المهاجرين الدارفوريين. مع اقتراب موعد الاستفتاء لجأت الحركة الشعبية ضمن لجان لحركات دارفور من أجل مزيد من الضغط على الحكومة السودانية لتمرير شروطها حتى يكون الاستفتاء وفق رؤية الحركة الشعبية. وكان أول من دعت الكوماندوز أحمد عبد الشافع في نفس الوقت الذي قام فيه الناطق باسم قطاع الشمال بمهاجمة الإستراتيجية الحكومية لإحلال السلام في دارفور، والغريب أنه بنى هجومه على الإستراتيجية بأن الحركة لم تستشار حولها، مع العلم أن للحركة وزراء كانوا من ضمن الذين ناقشوا الإستراتيجية وأجازوها عندما عرضت على مجلس الوزراء بالخرطوم، ولكن الحديث كان لأجل المزايدة السياسية فقط كما يبدو. ومن ناحية أخرى فإن الحركة الشعبية لم تكتف بدعوة أحمد عبد الشافع فقط ولكن وجهت دعوتها أيضاً لمناوي رئيس السلطة الانتقالية لدارفور وكذلك لأبو القاسم إمام الصديق المقرب من أحمد عبد الشافع، في اجتماع تساءلت الصحف بالخرطوم عن أهدافه التي لم تعلن الأمر الذي دفع بمبارك حامد علي (دربين) مساعد رئيس حركة تحرير السودان (جناح مناوي) إلى تحذير حركات دارفور المسلحة وقياداتها من السعي للاستقواء بالحركة الشعبية بحثاً عن مدهم بالعتاد العسكري والدعم المادي والمعنوي من أجل أن يشغلوا الشمال حال انفصال الجنوب، موضحاً أن دارفور لن تكون كومبارس للحركة الشعبية خاصة أن مواقف الحركة الشعبية تجاه اتفاقية أبوجا كانت سالبة، موضحاً أنهم في الحركة لا يتفائلون ولا يعشمون أن تقوم الحركة بخدمة أهل دارفور، لأن دارفور أقرب للتنسيق مع الشمال من الجنوب. وإذا كان الأمر كذلك فيبقى الترجيح الوحيد هو محاولة الحركة التي لا تفتر بخلق دور لها في دارفور التي لا تلتفت إليها إلا كنصير تكتيكي عند الأزمات التي تمر بها.

الحركة الشعبية بدورها فشلت تماماً في توحيد هذه الحركات في صف واحد من أجل توحيد رؤيتها لانها غير متفق في أهدافها حيث أن كل من مناوي وعبدالواحد محمد نور والدكتور خليل وحركة التحرير والعدالة يختلفون فيما بعضهم حول أهدافهم السياسية تجاه دارفور، هذا الإختلاف هو سبب أيضا في فشل مفاوضات الدوحة مع الحكومة مرتين الأولى مع خليل إبراهيم والثانية مع حركة التحرير والعدالة . السؤال الذي يطرح نفسه هل فعلاً لدي هذه الحركات الدارفورية أهدافة واضحة تجاه أهلهم في الدارفور؟ نهيك عن موقف الحكومة في حل قضية الدارفور، ولماذا هذه الحركات غير متفقة فيما بينها؟

ونجد نسبة مشاركة أبناء الدارفور في الحكومة المركزية المنتخبة نسبة كبيرة جداً مقارنة ببعض المناطق الأخرى في السودان، حيث تشارك الدارفور ب 20 وزيراً ووزير الدولة في الحكومة من جملة 35 وزيراً 42 وزراء الدولة أبرزهم وزير العدل ووزير المالية والإقتصاد الوطني فضلاً عن وزراء الوجودين في حكومات الولايات السودان الأخرى.

في الختام مع الرؤية الغير واضحة في هذه التحركات وفور إعلان إستقلال جنوب السودان كدولة مستقلة ستفقد الحركة الشعبية علاقاتها الإستراتيجية مع أبناء النيل الأزرق وجبال النوبة الذين حاربوا صفاً واحداً معها مدة 20عام. وسينتهي إهتمام الحركة أيضا بحركات الدارفور لان ليست هنالك مصلحة في هذه المناورة ، لذلك أرى أن على الحركة الشعبية الإبتعاد عن اللعبة التي لا هدف وراءها. نحن في الجنوب بعد إعلان الإستقلال نحتاج الى علاقات قوية وجيدة وطيبة مع الشمال لانها مهمة ومفيدة لدولة الوليدة.

السيد أمين العام للحركة الشعبية اعلن في الأيام الماضية بأن دولة الجنوب الوليدة ستحتاج الى علاقات تجارية وأمنية مع الشمال للحفاظ على المصالح المشتركة بين الشعبين، وأعتقد هذا هو الهدف المطلوب لدي كل الشعبين الشمالي والجنوبي، ولكن هذا الهدف لن يتحقق إذا إستمرت الحركة الشعبية في اللعبة السياسية المشتركة مع حركات الدارفور.