logo

أليس من حق الجنوبيون أن يحتفلوا بهذا الانتصار الذي تحقق لهم وقد خاضوا حروباً على امتداد حوالي ربع قرن ؟ أليس الاستقلال يستحق كل هذه التضحيات التي قدموها ؟
ولماذا أدار الجنوبيين ظهرهم للشمال ؟ ما هي التوقعات لمرحلة ما بعد الاستفتاء ؟ وهل سيفاجىء الجنوبيون أهل الشمال بسياسات لا يتوقعونها ؟ وهل ستطالب حكومة الجنوب الجديدة بتعويضات مالية ضخمة عن فترة الحرب ؟ وماذا عن اللغة الجديدة التي تتداول في الشمال عن ضرورة ايجاد اطر للتعاون وشراكة شمالية جنوبية؟
سمعنا من قبل عن الاتهامات التي كانت توزع مجاناً طوال السنوات الخمس الماضية ، فلا غرو فالإعلام تحت السيطرة وكل ما يقوله ( الرفاق) في المؤتمر الوطني فهو كالتعويذة ينشر على أنه قول حق لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه!
باقان أموم ( انفصالي ) ... ( ياسر عرمان ) .. انعزالي ومخرب وعميل ووو..
( إدوارد لينو ) .. داعية كفر !! وهلم جرا ..
لم يسلم أحد في الحركة الشعبية لتحرير السودان من الاستهزاء والاتهامات والغمز واللمز ، حتى النائب الأول لرئيس الجمهورية لم يسلم من الإساءات والتقريع والاهانات
لا قيمة لهذا المنصب السيادي في دولة الإنقاذ ،
كل من هب ودب في المؤتمر الوطني لعن ( سنسفيل ) هؤلاء القادة في الحركة الشعبية الذين وقعوا اتفاق شراكة مع المؤتمر الوطني ( ند للند ) وتصدوا بقوة السلاح للحرب التي رفعها المؤتمر الوطني .. وكانت النتيجة أن جلس المتحاربان في خيمة واحدة ، متساويان في الحقوق والواجبات ، ولكنها النظرة الضيقة ، والأفق السياسي الذي لا يتعدى ارنبة أنف السياسيين قادتنا إلى هذا المحك ، فلا بكاء الآن على ما جرى.
اتهموا الحركة الشعبية بالعمالة لإسرائيل وأن القاعدة الإسرائيلية جاهزة في جوبا !!
الم يسمع السودان كله بالعبقري الطيب مصطفى الذي أساء إلى الشمال قبل أن يسىء إلى الجنوبيين بدعاوى أكثر ما يمكن وصفها بالسذاجة وعدم معرفة التاريخ ، والمشكلة أنه لولا الدعم الذي وجده من السلطة لما كان له أن (يبرطع) هكذا !!
ثم انقلب الحال .. بعد أن بانت نزر الفجر وظهرت الحقيقة المرة .. وعرف دهاقنة المؤتمر الوطني أن موعد الساعة قد أزف . وأن كل السياسات العرجاء المشوهة قد أوصلتنا إلى هذا الدرك الأسفل ،وأن ميلاد الدولة حلم الجنوبيين قد أصبحت حقيقة ، وبدأنا نسمع عن الوشائج التي تربط بين الشعبين الجنوبي والشمالي ، والأخوة ..وعن..
بدأنا نرى في الفضائيات السودانية عجباً .. صور من المشاهد الإنسانية لإنسان الجنوب وكأننا نراهم لأول مرة.
لقد كتبت قبل حوالي 6 أشهر في هذا الموقع عن تجربتنا مع زميل الدراسة في الجامعة إدوارد لينو وعن فترة العيش والملاح التي عشناها بعد الجامعة لمدة 6 سنوات في شارع الصناعات بحي نمرة 2 في الخرطوم ... ووصفته بأنه إنسان هادئ وله أخلاق رفيعة و قلبه أبيض كبياض الثلج ولكن يبدو أن السياسة والمواجهات دفعته لهذا النفس الحار في مواجهة الإساءة والتهجمات لتي افتعلها المؤتمريون.
هناك موقفان لن ينساهما الجنوبيون أبداً ؛ اولهما : ( حقنة كمال عبيد ) تلك كانت جرحاً لن يندمل في نفوسهم خاصة الذين عاشوا منهم في الشمال، ولا أدري كيف يأتي مثل هذا التصريح من وزير الإعلام المفترض فيه أن يطفيء نار تصريحات رفاقه وزملائه التي تخرج عن السياق العام والخط العام للدولة او تتعارض مع سياسات الحزب الحاكم لا ان يكون هو من يدلي بمثل هذه التصريحات الغريبة .. ولكنها محنة وجود الشخص الغير مناسب في المكان المناسب !! سمعت الطالب الجنوبي بونا رئيس اتحاد الطلاب السودانيين في مدينة بونا الهندية يحادثني باسى عن تصريحات كمال عبيد ، ويقول أنها قفلت الطريق أمام اي رغبة وحدوية في البلد ، فما هو الفرق بين كمال عبيد والطيب مصطفى !
الموقف الثاني ذلك الحصار الغذائي الذي فرضته حكومة الانقاذ في الأيام الأخيرة على الاقليم الجنوبي قبل التصويت على الاستفتاء وذلك عندما منعت الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية من التوجه إلى الاقاليم الجنوبية وحتى هذه اللحظة ، وهو عقاب جماعي ومحاولة لهز ثقة الجنوبيين بحكومتهم ، ولكن نسوا مواقف الشعوب تجاه مثل هذه السياسات والتي لخصها الطالب الجنوبي الجامعي الذي تحدث لاحدى القنوات الفضائية وقال أنه يعلم أن دراسته قد تتعثر بعد عودته للجنوب لعدم توفر البنية الأساسية للجامعة في الجنوب ولكنه مستعد للتضحية بدراسته من اجل الاستقلال !
كيف لحكومة في دولة الجنوب القادمة تحترم شعبها أن تقبل التعامل مع الشمال وهو يمارس مثل هذه السياسات الصبيانية.
الحديث في الشمال يأتي الآن من اتجاه واحد ، والكل يتحدثون نيابة عن الجنوبيين الذين حسموا أمرهم ، أداروا طهرهم للشمال بعد أن سمعوا كل مفردات الإساءة والاستخفاف والعنصرية والعداء.
يقولون أن الدولة الجديدة لا تملك مقومات دولة ، وإنها لن تعيش إلا بدعم من الشمال وأنهم حتماً سيعودون إلى الشمال. لازال التفكير مستمر بصورة استعلائية في الشمال. ويقولون أن الجنوب يحتاج لدخل البترول ، ولهذا لا مفر من شحنه عبر الشمال ولا يدرون أن هذه المسألة أيضا لها أبعاد سياسية وقد تتغلب السياسة على المصالح الاقتصادية وفي سبيل البعد عن الشمال قد يتجهون بالبترول إلى مسار آخر وهنا سيلعق المؤتمر الوطني الحصرم!
في رأيي أن الجنوب ذهب ولن يعود مرة أخرى للتعاون مع الشمال في ظل النظام الحالي إلا بمعجزة ، وقد تكون فترة التعاون محدودة ولن تتعدى الفترة الانتقالية فقط حتى يكتمل الانفصال.
الطلاق المتوقع حدوثه سيكون طلاقاً نهائيا.ً وأن بناء الدولة الجديدة لن يكون أمراً مستحيلاً كما يدعي بعض المتحذلقين في الفضائية السودانية.
قبل أيام سمعنا تصريح القنصل الأمريكي في جوبا لفضائية البي بي سي عن أن الطريق الحيوي والاستراتيجي الذي يربط جوبا باوغندا الذي تنفذه شركة أمريكية على وشك الانتهاء ، فماذ ا يعني ذلك ؟ أكيد أن الحكومة الجديدة في جوبا لن ترهن نفسها بعد الاستقلال لنظام الانقاذ الذي شافت منه الويل !! وبالتالي سيكون التوجه جنوباً في اتجاه دول شرق أفريقيا هو خيارها الاستراتيجي.
والحرب التي دارت في الجنوب وأدت إلى تشريد الملايين في دول الجوار ...أسر وعوائل تفرقت في كل مكان ... معاناة لأكثر من ربع قرن ... هل يمكن أن ينساها الجنوبيون ؟
ولمن يعي الدرس يجب عليه أن يدقق في التصريحات التي أدلى بها سلفا كير عقب إدلائه بصوته في الاستفتاء ( بأن دماء المحاربيين الذين سقطوا في الحرب لن تذهب هدراً).
ومن الملفات الساخنة لتي ستفتحها الحكومة الجديدة ما يتعلق بالحرب الجهادية التي خاضها النظام الحالي .... والتي ستدفع الجنوبيين إلى طلب تعويضات مالية ضخمة بعد أن لحق الخراب بكل منطقة في الجنوب ، فحكومة الانقاذ خاضت الحرب بشعار ديني ( الجهاد) وهذا حسب الاعراف الدولية هو اضطهاد ديني وتطهير عرقي لشعب يعيش في إطار الدولة الواحدة ، كما أن الخرطوم اعترفت بحق شعب الجنوب بتقرير المصير ، وبالتالي من حق جوبا أن تطالب بحق التعويض عن هذه الحرب الدينية العرقية التي أدت إلى كل هذا الدمار والخراب .. فهل وعى المؤتمر الوطني هذه التوقعات ؟
كما سيندم المؤتمر الوطني كثيراً على مماطلته في حل المشكلات الخلافية : قضية أبيي ، والحدود ، والديون وغيرها من القضايا وتأجيلها ألى ما بعد الاستفتاء ، فالخلاف سيتحول إلى خلاف بين دولتين .. والحل إ سينتقل إلى المنظمات الدولية في حالة أي مماطلة ، إلى حكم لاهاي حول أبيي ، وحول الحدود حسب تخطيط 1956م الذي ستقدمه الدولة الاستعمارية السابقة بريطانيا .. وهلم جرا ، وبعده لن تنفع المماحكات التي استمرت لسنوات خمس !! وستنفتح امامه ابواب جهنم على الخرطوم حيث الأمور تدار بدون استراتيجية واضحة ... وانما رزق اليوم باليوم.
ومع إعلان نتيجة الاستفتاء سيسمع الشمال لغة إعلامية جديدة ، لم يألفوها ، سيعبر الكثيرون في الجنوب عن مراراتهم وعن الظلم الذي لحقهم ،وعن استعمار الجلابة الذي اختفى للأبد ، وعن فظائع الشماليين إبان الحرب.
لن تنسيهم فرحة الاستقلال من اجترار الذكريات المرة وما سمعته آذانهم مؤخراً من النوع الذي تردده صباح مساء الانتباهة ومن على شاكلتها. ولا تستبعدوا أن تكون لغة إعلامهم ساخنة موجعة لمشاعر الإنسان السوداني في الشمال.
والمؤسف أن الذين أساءوا لهذا النسيج الاجتماعي الرائع في السودان سيدفعون الثمن كثيراً ، ومن قبلهم شعبنا الصابر.
مرافعة أخيرة :
تونس .. والسودان وجهان لعملة واحدة !! تطلعاتهم هي نفس تطلعات شعبنا ومأساتهم لا تختلف عما يحدث عندنا :
- حكم شمولي 23 سنة .. ولدينا 21 عاماً ونصف العام من الحكم الشمولي.
- فساد يزكم الأنوف .. وفسادنا الشاهد عليه تلك العمارات الشاهقة والبنيان الذي تطاول إلى السماء في غمضة عين ! ويكفي أن المراجع العام تحدث عن ذلك ، وحتى خال الرئيس الطيب مصطفى تحدث عنه !
- تكميم الافواه وغياب الديمقراطية .. ولدينا حكم الفرد والحزب الواحد ،!
- الاعلام بوق الحكم لديهم .. ولدينا اعلام المؤتمر الوطني ، والسيطرة المحكمة على وسائل الاعلام وصحفيي النظام ( نجوم الفضائيات السودانية ) الذين هم جاهزون كل يوم لتبرير الأخطاء والسياسات المدمرة.
- وقاصمة الظهر ، السياسات الاقتصادية : غلاء فاحش وزيادة كبيرة في أسعار المواد الاستهلاكية عندهم .. ونحن يبشرنا وزير المالية بالعودة إلى ( الكسرة ) والزيادات الفاحشة في الغذاء والدواء والكساء ، بل ما هو آت من زيادات جديدة أمر أصعب وأمر. فما الفرق ؟؟
شعب أعزل قاد ثورة ( اكتوبر ) قبل 46 عاماً ، وقاد ثورة (ابريل ) قبل 35 عاماً في انتفاضة فريدة من نوعها تحدث في العالم الثالث وتتكرر مرتين ...
أليس من حق هذا الشعب الأبي أن ينعم بالحريات ،وأن ينعم بالديمقراطية التي سلبها العسكر43 عاماً من عمر السودان المستقل ( 55 عاما ) ، وأن يعود أبناءه الذين هاجروا إلى المنافي ، وتشردوا في كل بقعة في الكرة الأرضية هرباً من هذا الواقع المظلم !
إن ( القوة ) وحدها لن تحمي نظاماً ، وأن (القمع ) لن يقود إلا إلى أسوأ النهايات !!
هكذا علمنا التاريخ.
وقبل أن ...... تتدحرج ( كرة الثلج ) ...هل يتعظ البعض من دروس التاريخ !!
علي عثمان المبارك - صحفي
This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.