logo

خطرت لي فكرة الكتابة عن موضوع الدين و السياسة في جنوب السودان الرسمية منذ شهر يوليو الماضي ، حينما كنت في أحدي الايام أشاهد عند القيلولة شاشة تلفزيون جنوب السودان الذي يبث برامجه من حي نياكورين بجوبا الي العالم عبر القمر الفضائي عربسات .

وقد لاحظت من خلال برامج الفضائية ، الجرعة الدينية الزايدة ، حيث الترانيم الروحية المسيحية و المواعظ تحتل مساحة مقدرة من زمن البث الضئيل دون غيرها من برامج الأديان الاخري كالأسلام مثلاً !!

و كنت أحسب من باب حسن الظن، ان الامر غير مقصود من ادارة التلفزيون ، ولكن في احد ايام الاحد حدث ان كنت أيضاً أشاهد نفس الفضائية ، حيث عرجت الكاميرا بالمشاهدين الي داخل كاتدرائية القديسة مريم بحي كتور لنقل قداس الاحد علي الهواء مباشرة !!

كان السيد سلفاكير ميارديت حضوراً ضمن حشد من المصلين ضم عدد من وزاء حكومته و طاقم حراسه الي جانب جمهور الشعب .

و لكنني أيضاً ، واصلت حسن ظني وقلت في نفسي إن كاميرا التلفزيون ربما كانت تلهث وراء أخبار الرئيس ، ففي فن صناعة الاخبار ، فان موكب الرئيس حينما تحرك فهو بحد ذاته خبر ، و في حالة رئيسنا سلفاكير فان صلاة الاحد في كنيسة كتور امر يبدو في غاية الأهمية بالنسبة لأي مراسل صحفي نبيه !

كيف لا وهو ذات الكاتدرائية التي أطلق من محرابها سيادة الرئيس في يوم الاحد الاول من نوفمبر العام الماضي تصريحاته التي أحدثت ضجة كبيرة في ارجاء المعمورة ، حين دعا الجنوبيين الي إن يصوتوا للإنفصال حتي لا يعيشوا كمواطنين درجة ثانية!

و لمزيد من التأكد و تبديد الظنون التي حامت بي في تلك اللحظات و أنا أشاهد القداس عبر شاشة تلفزيون جنوب السودان ، أدرت هاتفي وإتصلت بزميلة و صديقة صحفية تعمل في القناة نفسها أستوضحها إن كان نقل قداس الاحد اليوم علي الهواء مباشرة أمراً إستثنائياً لوجود الرئيس ، فاجابت بالنفي وقالت إنه روتين إسبوعي مضمن في خارطة برامج الفضائية!!

ولم تبالي صديقتي كثيراً بامري و إنحرفت معي الي مناقشة موضوعات أخري، ولم تسألني حتي لماذا أنا مهتم بامر نقل القداس علي الهواء !!

و قد وجد لها العذر علي اي حال من الأحوال، إذ إن كثير من العاملين في هذه المحطة الرسمية فخورون بكونهم يقومون اليوم بعد عقود من الإهمال و التهميش بعكس ما كان محجوباً عن أعين الناس من ثقافات الجنوب الي العالم .

وهذا أمر جيد و عمل وطني عظيم لا غبار عليه ، لكن التدافع نحوه بحماس كسائر الاشياء التي ظللنا نرتجلها منذ توقيع إتفاقية السلام الشامل، قد أوقع بعض المؤسسات الرسمية في جنوب السودان في شرك مخالفة الدستور و مجافاة أهم مبدأ نهض عليه منفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان الذي كتبه ذات يوم القاضي مارتن ماجير، الا وهو مبدأ فصل الدين عن السياسة او سميه فصل الدين عن الدولة لا فرق!!

فقد كان الدين- ولايزال – اياً كان المسيحي او الإسلامى في السودان عامل فرقة أكثر منه عامل وحدة خاصة عند مزجه بالسياسة بغية إرهاب الاخرين باسم الله ، ولزعيمنا الراحل الدكتور جون قرنق أدب وافر في هذا الصدد ، لا أدري إن كان نسيه مسئولي قناة جنوب السودان الفضائية أم لم يسمعوا به أصلاً !!

نحن في جنوب السودان، ولئن كنا نرنو الي قيام دولتنا المستقلة كامل السيادة العام القادم ، فان الدين يجب ان يكون بعيداً عن المؤسسات الرسمية للدولة الحديثة مثل وسائل الاعلام ، و المناهج التربوية الرسمية و مكاتب الحكومة و غيرها ، حتي لا يتكرر نموزج الشمال عندنا في المستقبل.

فالتطرف ليس حكراً علي الاسلام وحده كما يظن بعض الخبثاء ، ولكنه موجود في كل الديانات و المذاهب فقط يحتاج الي من يهيئ له البيئة الصالحة لتوالده!

يجب ان يكون الدين علاقة شخصية بحتة بين الفرد و خالقه ، و الا تتبني الدولة دين رسمي ، فما يحدث الان في تلفزيون جنوب السودان يعتبر عندي إنحيازاً سافراً و فاضحاً لدين بعينه ! و الا فان هذا التلفزيون سيكون مضطراً ذات يوم الي نقل صلاة الجمعة للمسلمين كل يوم الجمعة من المسجد العتيق بجوبا ، و كذلك نقل صلوات جماعة شهود يهوة من داخل قاعة الملكوت الكائن قرب مقره في حي نياكورين ... وهكذا دواليك!!

كيمي جيمس أواي

5 سبتمبر 2010