logo

لا شك أن المراقب للشأن السوداني بصفة عامة والشأن الجنوبي بصفة خاصة، يدرك أهمية وصعوبة المرحلة القادمة التي يدخل فيها البلاد وما يمر به من استفتاء لأهل الجنوب فيها سيقررون مصيرهم القادم كيف سيكون؛ هل سيقررون الانفصال ويكون لديهم دولة جديدة في جنوب السودان مستقلة حرة آم سيظلون من ضمن دولة السودان الحالية .

وبالرغم من عظمة القضية إلا أن الملاحظ هو أن القائمين علي أمر القيادة في البلاد لم يضعوا للأمر الاستحقاق الكافي الذي يستحقه،فان القيادة في وادي والمواطن في جنوب السودان في وادي أخر ،فالموضوع رغم أهميته إلا أن البت فيه حتى الآن مازال محتكر ومحصور عند النخب والقادة ولم يعطي المواطن والذي هو صاحب القرار فيه وله القدح المعلي في الإفتاء علي هذا الأمر أن يعرف ما عليه وما له في هذا الإجراء المهم الذي يحدد ما سيكون عليه خلال فترة قصير لا تزيد عن الستة أشهر ، أن قضية الاستفتاء لم تكون وليد اللحظة بل تعتبر من الأمور الجوهرية في اتفاق السلام الشامل وهو تعتبر نقطة جوهرية بدونها لا معني لاتفاقية السلام، والتي وضع فيه حق أهل الجنوب في الاستفتاء علي تقرير مصيرهم ، ولكن الأمر المؤسف هو تجاهل طرفا الاتفاقية والمتمثلان في الحزبان الكبيران المؤتمر الوطني والحركة الشعبية واللذان ظلا في تشاكس دون الدخول في الأمور الجوهرية ،فالحركة الشعبية رغم ظهور قادتها بأنهم يريدون الوحدة ،ألا أن النبرة الانفصالية هي الهدف المخفي عند معظم من يمسكون بزمام الأمر فيها وذلك يبدو واضحا من خطاباتهم وأحاديثهم في المنابر الخاصة والتي كان من الأجدر بهم أن يعدوا أنفسهم لمرحلة ما بعد الانفصال بحيث يهتموا بوضع اللمسات لما بعد الانفصال ومناقشة الأمور التي يهم المواطن ولا سيما هولا الذين يسكنون الشمال لأنهم الأغلبية الصامتة التي يتحدث الكثيرين بالإنابة عنهم وهم ساكتون ، ولكن في واقع الأمر فان هولا هم من سيتأثرون بقضية الانفصال أكثر من غيرهم. ولكن ما يزيد الطين بله هو الصعوبة التي يواجه الموطن الجنوبي الذي يقطن الشمال فانه يواجه العديد من التحديات يمكن تلخيصها بعض منها كما أري في الآتي :

· إن المواطن الجنوبي في الشمال قد تعود إيجاد كل الخدمات الأولية من ماء الشرب و الغذاء والصحة والتعليم والكهرباء وخدمات الآمن وغيرها. والتي تتوفر في معظم مدن الشمال رغم اختلاف درجات كل منها من مكان لآخر حيث يسكن الفرد، إلا أن ذلك الوجود لا يمكن مقارنتها بما يتوفر في اكبر مدن الجنوب حيث لا يوجد أي مبرر لمقارنتها.

· إن المواطن الجنوبي في الشمال قد تعود علي إيجاد التقدير والاحترام ويتمتع بمكان خاصة ، كجنوبي له حقوق مكتسبة، اكتسبها بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل وهو ما لا يستطيع إيجاده في بلديه الجنوب ،حيث ليس لآي جنوبي مختلف مع الحركة الشعبية (التغيير الديمقراطي مثلا لا حصرا) أن يمارس نشاطه السياسية بحرية عكس ما يجده في الشمال فان كل الأنشطة السياسية والمدنية والثقافية للجنوبيين يمارسونها دون أي قيود.

· إن المواطن الجنوبي في الشمال قد تعود علي السكن المريح والآمن الذي يجده في الشمال ، بالإضافة إلي توفر كل الفرص لتعليم أبناءه وضمان مستقبلهم التعليمي والحياتي وهو ما لا يتوفر في معظم إرجاء الجنوب ، وما دليل علي ذلك امتلاك معظم الجنوبيين من أصحاب الحظوظ لمنازل مبنية بمواد ثابتة يصعب لصحابها تركها بسهولة.

· لقد ارتحل الآلاف من المواطنين الجنوبيين من الشمال إلي الجنوب بعد توقيع الاتفاقية مباشرة ، وذلك رغبة من الجميع أن يساهم في عملية البناء والتعمير ، ولكن النظرة المختلفة الذي وجده المواطن القادم من الشمال علي أساس انه لم يحارب مع الحركة أو انه جلابي أو مؤتمر وطني وغيرها من الصفات التي يصف بها من هولا القادمون من الخارج ، وانه غير مرغوب فيه في الجنوب رغم انه الأقدر علي البزل و العطاء والأداء المهني، هذا جعل العديد منهم يعودون أرجاهم إلي الشمال.

· إن اندلاع الصراعات القبلية في معظم أرجاء الولايات الجنوبي والانفلاتات الأمنية ،وفشل حكومة الإقليم في حل معظم هذا الإشكاليات بصورة تامة جعل العديد من الجنوبيين يشكون في مقدرة تلك الحكومة التي تقود الجنوب حاليا، ضمان الاستقرار في الإقليم في المستقبل القريب المنظور.

كل هذا الأمور التي ذكرتها هي علي سبيل المثال فقط وليس الحصر ، وقد يكون هناك الكثير منها والتي يمكن أن يراءوه شخصا أخر غيري، كلها أي الأمور السابق الذكر تؤدي إلي حيرة المواطن الجنوبي العادي وخاصة إذا حاول تشغيل عقله أكثر من عاطفته، فأننا كجنوبيين دائما نميل ميلا عاطفيا إلي الانفصال ونتحدث عنه بأنه المخرج الوحيد لنا من الهيمنة الشمالية وهي نظرة واقعية يقبله كل الجنوبيين بلا تميز ولكنه عمليا مواجها بتحديات قلما نضعها في الحسبان، ولكننا نتحاشه لا نرغب الدخول في مناقشة أمر الانفصال والوحدة بصورة منطقية ، بحيث نمحص فيهما المنافع والأضرار لكل منهما، فانه كما للوحدة أضرار ، فهناك بنفس القدرة توجد أضرار للانفصال يجب الحديث عن كليهما قدما علي ساق وعدم التخوف من مناقشته بحرية وحيادية كما نتحدث عن الانفصال وكأنها الخيار الجاذب الأوحد فقط الآن.

ولكن في السابق كان الحديث عن تقرير المصير عند توقيع اتفاقية السلام الشامل وقتها أو حينها حديثا ممتعا يملي المر نفسه به متشوقا وممتنا ،بحيث يراء أحلام دولته المنشودة وهو مستيقظ ، ولكن يبدو أن أحلامه الآن تحول إلي كابس يتمنع الهروب منها،و كانت تلك الأحاديث عن الانفصال و تكوين دولة الجنوب المرتقبة تعتبر من أقدس الأشياء التي يمكن للمر أن يفتخر بها لأنه سيكون فرصة لولادة دولة افريقية جديدة ترفع شعار الديمقراطية والعدالة والمساواة والشفافية والمحاسبية وكل القيم الديمقراطية المعرفة والتي تمثلها دعوة السودان الجديد والذي كانت الأهداف السامية التي يدعو إليه عراب الحركة الشعبية الراحل المقيم الشهيد الدكتور جون قرنق دي مبيور والذي فقده شعب الجنوب في وقت حرج جدا وهو في أمس الحاجة إليه والي أفكاره ورؤيته الثاقبة لمستقبل السودان عامة والجنوب خاصة ، فلا ادري كيف كان سيكون شعوره الآن وهو يري الجنوب يذهب إلي الهاوية غير مأسوف عليه، إذا قدر إمكانية أعادته إلي قيد الحياة !!. ولكننا مع التجريب لحكم الحركة ولا سيما السنين الخمسة التي قضيناها بعد الاتفاقية يجعل كل منا يحس وكأننا في السودان الأقدم وليس القديم ، بما رأينا من مثال سيئ للحكم قدمه لنا الحركة الشعبية في الإقليم وهي كانت النموذج التي يعول لها المواطن الجنوبي في الشمال والذي ضاق من ويلات الحكم الجائر التي تحمل وزرها وهو نازح في الشمال وهو يأمل في الحكومة القادم من الغابة بان يكون الأفضل ،هذا بصفة خاصة ولكنه أيضا كان أمل المواطن السوداني في الشرق والشمال والغرب بصفة عامة بان تكون حكم الحركة للجنوب نموذجا حيا لحكم السودان الجديد، ولكن الفشل الزر يع التي وقع فيها حكومة الجنوب يجعل من حق المواطن الجنوبي أن يفكر في خارطة طريق ثالث يخرج به من نفق اتفاقية السلام الشامل الذي أصبحت الآن مظلما في نظره بعد أن كان ناصح البياض ممتلي ضياءً وواضحة الرؤية والمعالم بحيث وضعت له خياران فقط لا ثالثة لهم الوحدة الجاذبة أو الانفصال .!! فهل من مخرج آخر يعيد الضو إلي هذا النفق ؟