عانت المجتمعات البشرية منذ القدم من عدم الاستقرار, واستطاعت بعض المجتمعات تطويع عوامله ومسبباته, والتي كانت نتاج خلافات وصراعات. سواء كان مصدرها الاختلافات الدينية, أو العرقية, أو الجهوية, أو الصراع من أجل السلطة فكانت ظاهرة الاستقرار نتاج تراكم حضاري من خلال (تدابير سياسية واجتماعية واقتصادية, وثقافية) أفضت إلى قولبة الإنسان فكرا, وسلوكا, وممارسة , ليتعايش المجتمع بسلام . فالمجتمعات التي استطاعت أن تحقق التقدم في جميع المجالات الفكرية, والمادية هي تلك المجتمعات التي استطاعت أن تجتاز مرحلة الفوضى والاختلاف .
عندما تم توقيع اتفاقية السلام الشامل عام2005 تصور كثيرين من ابناء شعبناء وبسطاء أن كل شىء فى جنوب السودان قد تغير.. واننا مقبلون الى مرحلة جديدة وأن ثمار الثورة منذ 1955حتى تاريخ توقيع اتفاقية السلام الشامل عام 2005 سيجنيها الشعب، ورغم عظمة الثورة التى راح ضحيتها أعز ما نملك من شباب وقيادات هذا الوطن. إلا أن الاستقرار الذي كان يحلم به الشعب لم يتحقق بصورة المطلوب تحت ضغط العوامل الداخلية والموروث الاجتماعي الكامن في بنيته القبلية, والمتغيرات السياسية الداخلية، وتحت ضغط التأثيرات الخارجية ، فقد طفحت على سطح امراض السلطة وتعدد الاثاره الجانبية فى شكل صراعات ونزاعات وتكتلات وانعدام ثقافة الخلاف فى الراى مما ادى الى انقسام الشارع الجنوبى إلى فرق ، فريق يمثل المنتفعيين من السلطة وفريق الاخر كان منتفع وخرج من دائرة الانتفاع واصبح من دائرة معارضة لمجرد خروجه من المعادلة الانتفاع والاخر لزم الصمت نتجة لعدم وجود الظروف و البئية المناسبة لمقاومة واعلان الرفض ومجموعة الاخير لديهم امل فى تغيير قد يطرح فى سلوك واعلاه قيم العدل والمساوة والشفافية وانتهاج لغة الحوار واشاعة ثقافة الاختلاف والتعقل الذى يودى الى تقليل الصراعات والنزعات وتشرذمات التى راح ضحيتها ارواح كثيرة عبر نيران صديقة نتيجة لانعدام ثقافة الخلاف وتقبل راى الاخر و التعصب للقبيلة، مما اوصل كثيرين فى وقت قصير بعد الاستقلال بان القيادة السياسية فى جنوب السودان بكل تأكيد لم تحقق كل ما كان يطمح إليه المواطن الجنوبى ولم تفِ بكل الوعود التي وعدت بها المواطنين ، لكن كل هذا لايمنع من أن نؤكد بأننا افضل بكثير واحسن حالا مقارنة بمرحلة السودان القديم، لذا يجب على كل ابن جنوب السودان حادب فى مصلحة جنوب السودان ان يساءل أين ثقافة الاختلاف؟ تلك الثقافة التي تعني احترام كل وجهة نظر ورأي واختيار مخالف لآرائنا وأفكارنا وسماعه ومناقشته في أجواء يسود فيها الاحترام والهدوء وسعة الصدر، تحت شعار اختلاف الآراء والأذواق والأفكار في حد ذاته رحمة للأمة، ونعمة من نعم الله علينا، وبصيرة لا يفقهها إلا العقلاء، كذلك هو درجة من درجات التفكّر والتعقل، ولولا الاختلاف في أنماط التفكير وطرح الآراء لما تطور الإنسان. فمن فينا لايصدق ويؤمن ان اختلاف الاراء هو الذي يولد الابداع وهو سنة الحياة فبدون وجهات النظر المختلفة والاراء المتعارضة لن يصل الانسان الي الراي الصحيح ولن يعثر الانسان علي الحقيقة ابدا والتي هي دائما هدف البشرية الاسمي ،لذا يجب علينا أن نؤمن بأن الخلاف في الرأي يجب ألا يفسد الود، وأن مناقشة الأفكار أجدى وأكثر فائدة من اعتقال الآراء، و الخلاف في وجهات النظر والنقاش البناء هو طريق الوصول للابداع وللتطور وبدون الخلاف المهذب والمحترم في الاراء والاتجاهات تفقد البشريه اهم مقومات التفاعل و الابداع،وكلما صقل المرء مهاراته فى ادب الحوار والاختلاف استطاع ان يكسب المهارة والنجاح فى العلاقات مع الناس والمجتمع. فالحضارة والثقافة لدى الشعوب والأمم المتطورة قائمة على ثقافة الاختلاف، والعقلاء هم الذين يستفيدون من ذلك ليضيفوا شيئا جديدا على الفكر والمعرفة، وكما يقال "لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع"، والمثل الياباني الشهير يؤكد أنه "لا نقاش في الأذواق" والمنطق يؤيد ذلك بل ويحث عليه، فأصابع اليد ليست مثل بعضها، والاختلاف والتنوع مقبول وطبيعي، لكن الخلاف هو المشكلة، الخلاف هو الذي يولد التباغض والانقسام، وهذا ما يحدث مع الأسف في كل شيء في حياتنااليومية.
ان المناقشة المهذبة الهادئه والقائمة علي احترم الراي الاخر تصل بالمختلفين في الراي الي مايسمي بالعصف الذهني الذي يمكن الجميع من المشاركة في افكار بعضهم البعض هذا التشارك الفكري بين الاراء المختلفة يمكن اصحاب الاراء المختلفة من الوصول الحقيقة ويمكن ان يصلوا الي نتيجة ثالثة غير التي بدأوا بها النقاش حول ارائهم مستوحاة من خلافهم في الراي وافضل من ارائهم السابقة .
ان ثقافة الاختلاف في الراي واحترام الراي الاخر لا توجد في كثير من قيادتنا السياسية للاسف الشديد ، فتجد ان كل شخص يتعصب لراية ايا كان ولا يقبل اي اراء اخري ولا يحترمها ويرفضها مسبقا قبل ان يفكر فيها بل يصل الامر للهجوم الشخصي علي اصحاب الرأي المخالف لمجرد ان لهم رأيا اخر بل وفي بعض الاحيان تجد ان مجرد الخلاف في الراي يصل في الكثير من الاحيان الي درجة العداء الشخصي بين اصحاب الاراء المختلفة مع ان المبدا هو ان الاختلاف في الراي لا يفسد للود قضية . وفي بعض الاحيان نجد اصحاب الاراء المختلفة متعصبين لارائهم حتي ولو ثبت لهم خطأ رأيهم لمجرد ان لايظهروا بمظهر المخطئ وللمحافظة علي مظهرهم مع ان الاعتراف بالحق فضيلة.
ان الخلاف في الراي يجب ان يكون هدفه الوحيد هو الوصول للحقيقة والصواب فقط وليس ساحة للتناحر والمبارزة لاظهار القوة والانتصار للرأي ايا كان هذا الرأي صوابا او خطأ، اننا ما زلنا في حاجة إلى مزيد من الوعي والإدراك في ثقافة الاختلاف والحوار لأننا مكبلون بطباع نرجسية وموروثات اجتماعية تصوّر لكل واحد منّا أنه الأفهم من الآخر، وما إن يأخذ الواحد منا بطرف من العلوم حتى يعتقد أنه الأكثر نضجا وهو يستنكف أن ينتقده الآخر في رأيه!! إذن الثقافة بلا اختلاف، كرأس بلا عقل، شجرة بلا ثمار، أو جسد بلا روح، مع الأخذ في الحسبان أن الاختلاف يفقد قيمته حينما يتحول إلى خلاف أو عداء شخصي، فاختلاف الفرد في رأيه مع الآخر، ميزة إيجابية قد تكشف لأحدهما أو لكليهما قصورا ما، فيسارعان إلى إعادة النظر فيما اختلفا فيه، فيدفع كل منهما نفسه أو الآخر إلى التصويب بقصد أو بغير قصد، فليس هناك ضير أو ضرار في ذلك الاختلاف، ما دامت نتيجته محمودة العواقب، وأن كلا منهما يتقبل الآخر، حتى وإن لم يتوصلا إلى أن يقنع كل منهما الآخر، فالمحصلة النهائية تتجسد في قبول ثقافة الاختلاف مع الرأي الآخر، وأيضا لغة التفاهم، على ألا يُكرِه أحدهما الآخر على قبول رأيه بشكل تعسفي، تغيب عنه لغة التعقل والمنطق. ان اي راي مهما كان ومهما كان مكانة صاحبة هو مجرد راي يحتمل الصواب والخطا فلا يوجد شخص معصوم ولا توجد نظرية ثابتة فكل الاراء قابلة للنقاش والنقد وكل النظريات قابلة للتغيير، والموضوعات الوحيدة الغير قابلة للنقاش والتغيير هي المتعلقة بالدين والعبوديه لله .
يجب ان نفهم الثقافه الصحيحة للخلاف في الراي وإلا فلا امل يرجي من اصلاح عيوب او تصحيح اخطاء او تقدم او حتي ابداع وسنظل كما نحن نغرق انفسنا في مجرد نقاشات بيزنطية وسفسطة لا طائل من ورائها.
ان جنوب السودان بعد الاستقلال في امس الحاجة لتقبل الرأي الاخر والنقد الموضوعي البناء لاراء الاخرين وان يكون الجميع علي استعداد لقبول الاخر والتنازل عن رأيه اذ ثبت خطأه بعيدا عن التشدد و التعصب الاعمي ، يجب احترام وجهتى النظر ولا يفرض فصيل على الآخر رأيه ولا يحرم ما لا يجب تحريمه ويجب أن نتعلم ثقافة الاختلاف ولا نجبر الناس على الاقتناع بآرائنا عن طريق القمع والعنف والترهيب ويكون هو السلاح الذى نحارب به الآخرين والحل الأوحد هو تنمية ثقافة الاختلاف خاصة لدى الأجيال الجديدة، فهي وحدها القادرة على فتح آفاق جديدة رحبة لنا جميعا في تقبل الآراء الأخرى، والاستفادة منها، بل وتحويلها إلى فكر مستنير تشترك فيه عقول مختلفة.
من هنا وجب علينا جميعاً أن نتحمل المسئولية تجاه شعبنا العظيم بأن نرسى ثقافات عديدة افتقدها المجتمع فى جنوب السودان و كثير من قيادتنا السياسية أهمها ثقافة الاختلاف وأن المثل المصرى القديم يقول: «الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية..» .
بقلم : فاولينو اوموج اوماى
Newer articles:
Older news items
Latest news items (all categories):
- How Collo’s Selfish Education Negatively Affects Society - 17/05/2025 21:06
- Museveni Launches Regional Road Project Linking Uganda, South Sudan & Central African Republic - 17/05/2025 20:08
- AMECEA And SSSCBC Host Three-Day Constitution Review Workshop in South Sudan - 17/05/2025 20:03
- ‘Knives Are Out’ in South Sudan as Vice President Is Held in Detention - 17/05/2025 19:09
- UN Security Council Should Renew South Sudan Arms Embargo - 17/05/2025 19:03
Random articles (all categories):
- Pachodo.org Terms and Conditions - 09/03/2007 15:57
- Morocco funds relocation of South Sudan capital - 03/02/2017 02:08
- Hijacked tank cargo bound for South Sudan - 30/09/2008 17:15
- Only the UN Can Offer the Sustainable Disarmament of Civilians in RSS - 10/10/2011 01:00
- Sudan agrees to AU roadmap, must meet South Sudan - STLtoday.com - 03/05/2012 12:10
Popular articles:
- مفهوم التنمية . - 12/04/2011 01:00 - Read 90409 times
- مفهوم النزاع - 06/04/2011 01:00 - Read 57534 times
- مفهوم التنمية الصحية - 31/01/2012 21:32 - Read 45136 times
- Jobs Analysis Concept مفهوم توصيف او تحليل الوظائف - 01/10/2011 01:00 - Read 44780 times
- مفهوم الحكم الراشد - 23/10/2010 03:30 - Read 40307 times