logo

كانت تلك المساء الصيفي الحار، والتي تشبه كل الأمسيات الأخرى علي وشك أن يسدل بستاره معلنا ً الغروب ونهاية نهارا ً مشمشا ً؛عندما كان هولاء الصبية يهرولون جريا إلي ضفة النيل بعد تمرين( دافوري(1)) بكرة القدم وهم يصرخون هكذا (الطيش قرنتي (2)!!) وهذه مقولة تقال ليقصد بها "إن أخر شخص يسقط علي مياه النيل يقوم بدور القرنتي، و الذي سيعمل علي محاولة القبض واللحاق علي أي شخص أخر من الذين سبقوه في السقوط علي النيل ليقوم الممسوك أو المقبوض عليه بدورٍ تتقمص القرنتي، وهكذا دواليك تستمر اللعبة "، إلي أن يتعب الجميع من السباحة في النيل ومن ثم الرجوع إلى منازلهم فرحين وسعداء.

إلا أن ذلك اليوم كان غريبا بالنسبة لهولاء الصبية حيث لم تكتمل فرحتهم ، فلقد فجئوا بدوي غير مألوف تتعالى على مسامع وآذان الجميع حيث كانت أصوات البنادق تتعالى آتية من الجانب الغربي للمدينة ومن الضفة الغربية من نهر النيل الأبيض وهي تدوي ( تو تتو توم توم!!) ،فكان هذا المشهد الغريب حيث أن الجميع وفي ذهول ورعب شديدين صاروا يجرون من حوض النهر إلي الشاطئ مهرولين وهم غير مبالين أن كانوا عاريين كليا أو نصفيا،الأمر الذي كان مهما لديهم هو أن ينجو كل واحد بجلديه من ذلك الجحيم المدوي! وذلك لان الضرب وأصوت الذخيرة كانت في تزايد،وكانت أصوات النسوة اللاتي كن علي ضفة النيل تتعالى بالصراخ والعويل،فترى حركة الناس في عشوائية تامة وكأنها حركة جيوش النمل وهي في نشاط جمع غلتها، أو حركة الماء عندما تكون في أوج درجات غليانها، حركة عشوائية لا تفهم فيها من ينادي من! أو من يريد إنقاذ من ، كان الرعب والخوف قد حلا على الكل، فإنها أول مرة يسمع فيها دوي إطلاق النار بهذا الشكل،فلقد كان الأخبار تتوالى أن هنالك ثورة أخرى تسمى انيانيا تو في الغابة ،ولكن لم يكون ذلك واضحا بالنسبة للإنسان البسيط بعد حلول السلام قبل عقدٍ أو يزيد بقليل من الزمان ، ولا سيما لهولاء الصبية وهم في مقتبل عمرهم يتحسسون جمال الحياة في براءة وفي قلبوهم الصغيرة أحلام وردية بمستقبل زاهر مشرق لا يعكر صفوه شئ، فها هي الأقدار تعود لتخبئ لهم أحداث لا يفهمون ما كنها أو جلها أو ماذا يخفيه تلك الأقدار في خلفيه من أحداث وأمور قادمة ، وبعد فترة زمنية ليس بالقليل،بدأ الهدوء يعود وتدب من جديد ،وانخفض أصوات الذخيرة تدريجيا، وأصبح هناك طلقة واحد يدوي وهنا طلقةٌ أخرى ردا لها ، ولكن كانت ضفة النيل في وهلة ولمحة بصر قد أصبحت خالية الوفاض، ولم يعد هناك أي حركة أو دبيب ، فلقد قادر الكل ولم يبقى غير خرير الماء تعكر صفوة الهدوء ومعه أصوات الموج التي هدأت هي أيضا وكأنها قد اضطربت وخافت مثل البشر من تلك الأصوات التي لم تسمعها الطبيعة منذ أن أعلن نهاية أوزار الحرب الأهلية الأولى مع إتمام التوقيع على اتفاقية أديس أبابا في القرن الماضي وذلك في العام اثنين وسبعون و تسعمائة و ألف بين الرئيس الراحل و حركة الانانيا الأولى وذلك الهدوء إشارة من الطبيعة و كأنها تشاطر الإنسان أيضا في الأفراح والأحزان وتعبر عنها بالهدوء والسكينة تارة وبالأمواج والاضطراب تارةً أخرى.

هكذا بدأ الخوف والتوجس يأخذا مكانا وحيزاً في خيال هولاء الصبية عندما رأوا أن هناك حربا سيندلع مرة أخرى في بلادهم، فكان براءة الطفولة يجعلهم يتخيلون أن حامل السلاح هذا، شخص غريب،لا يشبهم في شئ، فكانوا يظنون أن هولاء إذا دخلوا مدينتهم ، وأردوا الاستيلاء عليها، فأنهم سيقومون بالتمثيل و كأنهم قد ماتوا إلي أن يرجع هولاء المهاجمون أدرجهم ومن ثم يعودون لإتمام ألاعبهم المحبوبة لديهم وهي العاب متنوعة (كشيليل وينو، السك سك والتلفون تلفون (3)) وغيرها من الألعاب التي كانوا بها يحركون سكون الليل وهدوه وكأني بهم يقولون " لماذا الحرب، دعونا نعيش بسلام وأمان"؟! كانت تلك هي براءة الطفولة،التي يتمتع بها الأطفال في أي مكان من العالم فأنهم لا يعرفون لأنفسهم عدوا، فكل ما كان يدور في فكرهم وخيالهم أن هذه الأمور الذي يسميه البعض ثورة وعند البعض الأخر تمرد أمر لا يعنيهم في شئ وينظرون إليها على إنها مجرد رجال كبار يلعبون بالنار وليس من وراء ما يقومون بها هدف أو طايل!غرب الشمس وحلة الظلام ولكن ظلام تلك المساء كانت من نوع ٍ مختلفة، فقد بدأت أصداء وأوصال الموت تدب في المدينة، فلقد خلد الكل إلى غرف النوم مبكراً، و أصبح الأمان بالنسبة لهم الآن غير متاح ومتوفر كما كان في السابق، فكان ذلك ما زاد من فقامة و قتامة و ظلمة تلك المساء والتي لم تكن معروفة لديهم متى سيضي القمر دجته وظلامه الهالك! وتعود إليهم وإلى مدينتهم الصفاء المفقود، ليعودوا مرة أخرى إلى ليالي القمر والتي كانت تحتها تحلو السمر!. هكذا دار الأيام وكان هولاء الصبية الصغار حينها،هم الآن الكبار الراشدين الذين حققوا الانفصال سلميا بالتصويت وساهموا في خروج دولة جديدة إلى الحياة في قارة إفريقيا السمراء بعد أن فهموا لماذا يلعب الكبار بالنار؟ فتحول مساءهم المظلم إلى صباحا مشرق حيث أبصروا الحرية أخيرا وأصبح لهم دولة جديدة يسمى جنوب السودان !!.

نهاية القصة - ا.جالفان سامسون

كلمات صعبة:
1- الدافوري: لعبة لكرة قدم لا تتقيد ببعض قوانين اللعبة.
2- القرنتي: فرس البحر.
3- الشيليل، السك سك والتلفون تلفون العاب سودانية يلعب بها الأطفال في الليالي المقمرة.


ا.جالفان سامسون