logo

refrendum2011

بقلم فرانسيس مايكل قوانق

ميلاد جمهورية جنوب السودان ، لم يكن محل الصدف بنسبة للكثيرين ، فهذا حصاد السنين للحركات ناضلت وظلت تطالب بدولة مستقلة منذ إعلان إستقلال السودان عام 1956 ، وهذا ما بدأ بتمرد في الجنوب عام 1955 ، وكان الحركة الشعبية الذي قدم مشروع السودان الجديد ، يعرف تماماً أن انفصال الجنوب عن الشمال لا محال منها وإنها مسالة الوقت ، سيحدث في المستقبل وإن كان في عهد الحركة الشعبية او مجموعات اخرى متمردة ترفع شعار انفصال الجنوب عن شماله.

مساهمات أبناء جنوب السودان ، في جميع الحركات النضالية حسب التسلسل النضالي لهذه الحركات أدت الى تحقيق الهدف النضالي وساهم فيه ابناء الجنوب من المثقفين والسياسين والمزارعين  والرعاة والطلاب وغيرهم ، بمساندة ودعم كل الحركات التي كانت تناضل من اجل التحرير ، ومع مرور الوقت ، إنتهت بمشروع الحركة الشعبية كواحد من الحركات النضالية ، وهو مشروع السودان الجديد ، انفصل الجنوب عن الشمال ، وبالطبع انفصال الجنوب ليس بمشروع الحركة بصورة علنية لكنها مشروع تيارات انفصالية داخل الحركة ، ولكن ، هل كان هناك مخططاً من الحركة الشعبية للبناء الدولة؟

يرى العديد من الباحثين ان إنفصال الجنوب عن الشمال أنهي "مشروع السودان الجديد" وهذا في  إعتقادي أيضا وتركوا رفقاء الأمس يناضلون في جبال النوبة والنيل الأزرق ، والدليل إندلاع الحرب في مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق بعد انفصال الجنوب ، وفي نفس الوقت دخل الدولة الحديثة في مأزق "بناء الدولة "بأسس الحديثة وفشل المشروع واندلعت الحرب بعد عامين من إحياء ذكرى الإستقلال.

بالعودة إلى تاريخ السودان القديم ، فكل الأنظمة السياسية ، حكموا السودان دون إتخاذ خطوات حقيقية لبناء دولة المواطنة في السودان على أسس الحديثة بوضع دستور شامل وليس "دائم" وأقصد بشامل دستور يشمل كل مكونات المجتمع السوداني دون تمييز ، يوافق عليه الجميع بالإجماع ويظهر فيه مبادئ ، وهوية الدولة الحقيقية ، لم يحدث هذا وتم حكم السودان ما بين الديمقراطية الديكتاتورية ، العسكرية الاستبدادية والديمقراطية المقيدة.

السؤال الأساسي هنا ، ماذا كان يريده الجنوبيين السودانين ، بعد الإنفصال ؟ وهل تحقق ذلك؟. أعتقد أن تاريخ السودان القديم واعتمادا على أوضاع الجنوبيين ، لم يكن الجنوبيين السودانين يريدون غير بناء دولة المواطنة يخاطب قضايا الفقر والتهميش والهوية وغيره ، ويتعامل معهم السلطة الحاكم على اساس انهم مواطنين من طبقة واحد دون تمييز ، ولكن أمال وتطلعات الجنوبين السودانيين ذهب في مهب الرياح وإن كان الأمل لايزال في الأفق. 

عندما تولى قيادات الحركة الشعبية في جنوب السودان مقاليد الحكم ، بموجب إتفاق نيفاشا ، تحول النزاع حول السلطة بين قيادات الحركة إلى التأمر على حساب القبيلة وانحرافها الى منحنى خطير ، حال إلى تهديد مستقبل الدولة والحزب نفسه خلال الفترة الانتقالية لاتفاقية نيفاشا التي مهدت لإنفصال الجنوب ، و ما بعد الإنفصال تلاشت طموحات بناء دولة المواطنة ، وقامت الحركة بإبدال مؤسسات التي ورثوها من السودان القديم ولكن الصدمة الكبير هو أن عملية الإبدال هذا لم يكن لها أفكار وبرامج قادرة على تطوير مؤسسات الدولة نسبة لعدم وجود خطة معدة ومدروسة أو برامج سياسية للحزب الحاكم والموالين له ، فقدت الحركة بوصلة مشروع السودان الجديد وفقدت أيضا بوصلة بناء دولة المواطنة في الجنوب ، وهذا ما يطرح سؤال هل كان الجنوب مستثنى من مشروع السودان الجديد؟.

لقد كان قيادات الحركات الوطنية التحررية الجنوب سودانين من السياسيين و المثقفون يوجهون سهام النقد دوما للمركز "الخرطوم" ويزعمون وجود خطط ومشاريع جاهزة لمرحلة ما بعد إعلان دولة الجنوب ، من الإقتصاد والتعليم والإدارة وغيرها ، لكن الجنوبيين لم يفلتو من اخطاء السودان لنقدهم للحكم البريطاني بوجود مثل تلك الخطط للإدارة السودان وهذا ما فشل فيه السودان وتحول السودان إلى انقلابات عسكرية وحكومات دكتاتورية وتهميش أبناء الهامش على أساس القبيلة والحالة مشابهة تماما لجنوب السودان وهو غياب الرؤية لإدارة البلاد.

إتجاه قيادات الأحزاب السياسية في جنوب السودان ، ولا سيما قيادات الحركة الشعبية لتأمر على ممارسة الديمقراطية داخل الحركة نفسه في العام 2008 والتعجل بالانفراد بالسلطة واجهاض مشروع الحوار الجنوبي الجنوبي "المشروع الوطني" ما بعد الإنفصال ، وعرقلة المستقبل السياسي في البلاد. ضعفت فرص تحقيق الاستقرار والسلام والعدالة الاجتماعية والاقتصادية وإيجاد الحل لمشاكل المزارعين والرعاة "أبناء الريف الجنوبي"،  ومُخاطبة قضايا الهوية والوحدة بين الجنوبيين وأخذت وتيرة النزاع في تصاعد باندلاع الحرب في العام 2013.

إن الحديث عن تأسيس الدولة وبناء مُستقبل الأمة ، كان يحتاج في بدايته على ممارسة الديمقراطية تعطي تداول سلمي للسلطة بين القوى السياسية عن طريق انتخابات يشارك فيه كل المواطنين بهدف استيعاب التنوع الإثني والثقافي ، والإجتماعي ، يمكن القول أن نظام الحكم في السودان بعد الاستقلال والتي صاحب أول انقلاب عسكري بعد عامين من الاستقلال غيرت طريق التحول ومخاطبة قضايا الهوية في البلاد. وأصبح تطبيق الديمقراطية واحد من المهددات ويتوقف العمل السياسي على اساس القبيلة واستمرت الأحزاب التقليدية في تقويض عملية التغيير ، وصحابه الكثير من الصراعات والأخطاء ، وشوهت صورة النظام الديمقراطي في أذهان الأحزاب السياسية التقدمية ، وتحول الوضع إلى فوضوية الأنظمة المتعاقبة وديكتاتورية السلطة ، وفقدت قيم تحقيق الاستقرار ومناهجها وأدت إلى انقلابات عسكرية وقطعت طريق أمام مسار التحول الديمقراطي.

من خلال الفترات المتعاقبة ، تبين على أن ما مرت به السودان في الوهلة الأولى من الإستقلال هي نفس الحالة التي تمر به جنوب السودان حالياً ، حيث لم يتعلم السياسيين والعسكرين الجنوب سودانين من التجارب السياسية السابقة في السودان ، من ظاهرة الأنظمة الشمولية ولكن الواقع أفسح المجال لتعقيد الأمور أكثر. وتم تقسيم الأحزاب على أساس قبلي وقياداتها على نفس المنوال واغلقت الباب أمام الأحزاب السياسية ذات توجهات شبه تقدمية ، وأصبح إرتباط كل حزب سياسي بجماعة مسلحة ، الغاية منها إضطهاد عناصر الحزب.

حقيقة الصراع في جنوب السودان ، هي صراع إثني سياسي بكل الإمتياز وهذا ما ينكرها العديد من السياسيين ، ولكن لكل من يراقب الأوضاع والصراع الحاصل فهو نزاع طبقي "إثني" وهذا نتائج عدم التوافق وانفراد بضعة من القبائل في بداية مرحلة تأسيس الدولة بالسلطة ، من أجل السيطرة على منافذ الدولة وتأسيس دولة "مركزية الحكم" تسيطر عليه أفراد معينين ، لتحقيق مصالحهم ومصالحة أبناءهم خصماً من الأخرين ، لكن ما لم يكن في الحسبان من قبل المجموعات المتحالفة في حد ذاتها في مشروع تأسيس "مركزية السيطرة المطلقة" هو أنهم لم يكونوا على العلم بتفاصيل تلك التحالف نسبة لـ "هشاشته" ومخاطره السياسية والإجتماعية ، حال فشلهم في تقاسم مؤسسات الدولة وهذا ما حدث بالتحديد رغم أن ذلك كان مرتبطاً بصراع السياسيين حول السلطة ولكن المرجعية الحقيقية لهذا الصراع هو "الإثنية".

في ظل كل هذه التناقضات وغياب الرؤية ، أصبح الانتماء إلى الدولة يتم على أساس المكانة الإجتماعية ، وتم وضع خيارات مفتوح أمام المجتمع الجنوب سوداني في بدايات تنفيذ اتفاق نيفاشا عام 2005 ، وتسبب ذلك في انفصال الطبقات إجتماعياً وفقا للقبائل عن بعضها البعض ، وانقسم الجنوبيين السودانين ما بين الطبقة العاملة في الأقاليم والطبقة المستفيدة في المركز "جوبا" ، وهم برجوازيين الطبقة الحاكمة . وظهرت توترات في العلاقات بين تلك الطبقات ما بين الطبقة الوعي إثنياً متقوقعين حول قبيلتهم لمصلحة الخاص ، مقابل الطبقة وعي تعليمياً "القوميون المثقفون". هم أصحاب النظرية القومية للبناء الدولة.

بداءت أنشطة برجوازيين الطبقة الحاكمة ، في الحفاظ على الولاءات القبلية وشطرت المجتمع على أسس الطبقة الحاكمة "الأقلية المسيطرة على السلطة وليس بشرط على ان تكون القبيلة بصورة كاملة". لكن السؤال المحوري خلال فترة وجيزة كيف إستطاع الطبقة الإثنية أن تسيطر على الطبقة المتعلمة "المثقفون" وهذا سؤال يحتاج لدراسة من الباحثين والمهتمين ، وقد استطاع هذا المجموعة من إسقاط كل الشعارات التي كانت تنادي بها الحركة الشعبية ، مشروع "السودان الجديد" ونقل المدن إلى الريف.

ظهور طبقة البرجوازيين ، الذي يخدم مصالح الأفراد في الحكومة "طبقة المثقفة" وهي في أساسها ظهرت في شكل تكتلات أو جمعيات تعاونية خفية أو روابط قبلية أو في شكل منظمات مدنية ، وفرضت تلك الطبقة ولاءات "ملزمة" للأفراد وخاضت معركة النزاع القبلي "الإثني" بحكم الإنتماء فقط.

في إطار تلك التناقضات التي صاحبت مرحلة بناء الدولة الحديثة ، تم اخفاء الحقائق التاريخية وتصدر القبلية المشهد ، حيث صراع الطبقات الإجتماعية ، وشكلت هذه توترات في مجتمع مُنقسم في أساسها الى طبقات إثنية كل طبقة تقاوم من أجل وضعها الإجتماعي والإقتصادي في صراع مقاومة برجوازيين الطبقة الحاكمة "إستقراطين الجدد".

الصراع في جنوب السودان ، ليس صراع "عنصري " كما حدث في جنوب أفريقيا أو على أساس الدين او العروبة كما حدث في السودان القديم ، ولا صراع بين أفارقة والعرب ، لكن في الواقع هي صراع بين طبقة متحصنة بالقبلية حول السلطة وقاموا بتحويل هذا الصراع الى "إثنية" ، بعد أن سيطرت عليهم الطبقة الوعي إثنيا على أيدولوجية الدولة.

حقيقة الصراع الإثني ، والذي يحاول كل مجموعة أن تسيطر بصورة مطلقة على السلطة لتكريس إسم قبيلته ، وإعادة سيناريو السودان القديم ، نتج عنه نزاعات حول الأرض في ملكال وجوبا ، وياي ، واو ، وكل هذه النزاعات كان يمكن حلها فقط بمجرد وجود سلطة سياسية تحكم البلاد وواعي بقضايا المواطنين ، ولها نظرة قومية لحل قضايا التي تتعلق ببناء الدولة. ولكن غياب الوعي السياسي عمقت تلك القضايا وحولتها لمصالح أشخاص معينين أصابت الرؤية بالعقم الفكري.

بالنظر إلى تلك الأحداث ومعوقات بناء الدولة وبنسبة لقيادات التى كانت تنتقد الحكومة في الخرطوم وتنادي بحقوق المهشمين فقد وقعت هذه القيادات في نفس الأخطاء ، فقبل إنفصال الجنوب تمرد عدد من قيادات الحركة ، احتجاجا على تقويض أول عملية ديمقراطية برمتها في تاريخ نظام الحكم ، الذي كان ينادي بها السودانين ، وقد يكون هذا دليل كافي للحكم بمستقبل السودان المتارجح حتى اليوم ، انفصل الجنوب عن الشمال بنفس أمراض.

فكل مقومات التي كانت تشكل مرحلة ما بعد الإستقلال من التعدد القبلي والثقافي والإجتماعي والإقتصادي، وحكم القانون وتحديد نوع النظام الذي سيحكم به البلاد ، وتطوير الثقافة الوطنية الذي نادى به المثقفون والمناضلون من الحركات الإنفصالية والوحدوية ، منذ العام 1955 حتى 2005 اتفاق نيفاشا ، ارتبطت بأمراض السودان القديم ولم يجد الشعب الجنوبي سوداني ، نصيبها من ثمار النضال لقرابة الـ 50 عاماً ، وإنتهت أحلام أبناء المزارعين والرعاة والمثقفون والطلاب وغيرهم في ظرف عامين فقط.

وبرغم أن الطبقة العاملة من الرعاة والمزارعين الطبقة "البروليتاريا" هم أصحاب دعم الثورة الحقيقيون لتحقيق أهداف النضال ، أصبحوا اليوم ضحايا الرأسماليين الطبقة الحاكمة "البرجوازيين" وإن كان البروليتاريا هي أداء التاريخ لكل الثورات فقد اهملتهم قياداتهم القبليين.

إن الوعي التاريخي لقضايا الشعوب وتأسيس حركات النضالية ، يتطلب وعي إجتماعي ومسؤولية كبيرة من ظل الأطراف بعد التحرير ، باندماج والتعامل مع العنصر الذاتي والموضوعي لتنفيذ تلك المطالب النضالية ، وهذا ما فشلت فيه القيادات السياسية في جنوب السودان مخاطبته حتى الأن.

Francis michael
Journalist - South Sudan  صحفي من جنوب السودان 
phone:  (+211) 912 199  976  
             (+ 211) 926 398 793   
             (+ 211) 956 421 514    
             ( +249 ) 915252324 - SUDAN