logo

مزامير البشير وطبول الجهاد

كيمو أجينق أبا

ألكسندريا/ فرجينيا

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.

Albashir

أيام الحرب التى كانت تشنها الجيش الشعبى والحركة الشعبية لتحرير السودان، ذاع صيت مذيع معروف فى ذلك الزمن النضالى ، وأسمه / مرحوم دوت كات. وكانت له مزحة سياسية مشهورة فى البرامج الحوارية التى كان يلقيها ويستمتع بها مستمعى إذاعة الجيش الشعبى لتحرير السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان. مزحته المفضلة كانت فى انه يطلق أسم " عمر البشكير" فى الإشارة الى عمر البشير. والبشكير معروف لدينا على أنه قطعة مستطيلة من القماش القطنى التى تستخدم لتجفيف الجسم بعد أداء فريضة الإستحمام. مقولته هذه لم تكن تعنى شيئاً خلاف ان حكومة الإنقاذ الوطنى كانت تخفى عورة فظيعة تتمثل فى عدم إتساق المبادئ الدينية والسياسية والأخلاقية التى تنادى بها مع تطبيقاتها على أرض الواقع. وأهم من ذلك رسخت مبدأ عقيم فى جسد السياسة فى البلاد ? مبدأ القوة والحرب والإحتواء الداخلى- وهذه الأخيرة زيينت وجُمِلت على أساس انها تعنى التوالى او الشورى.

وفى صبيحة 30 يونيو التى جاءت بالبشير الى رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش تكهن الراحل/ د/ جون قرنق بأن وصول " الطغمة" الى السلطة فى الخرطوم من شأنها تطويل عمر الحرب وأمدها فى السودان، وقد كان صدقاً فيما إنتهى إليه . بل تعندت "الإنقاذ" كثيراً وشمًرت عن ساعد الرفض غير المبرر فى الجلوس على طاولة التفاوض وتلكأت إينما التلكؤ فى القبول بحلول وسطى إلا ان قبلت بحزم منفردة جمعت فى شكل مسودات نعرفها اليوم بإتفاقية السلام الشامل لعام 2005. ورغم القبول الكبير الذى حظيت به إتفاقية نيفاشا ، ومرده أنها أوقفت الحرب وحقنت الدماء، كما وأوجدت ، من جديد، مبدأ التداول السلمى للسلطة والثروة؛ لكن الإتفاق برمته ، و فى عرف الإنقاذ( المؤتمر الوطنى) كان بمثابة "تهين" للفرصة الى حين "التمٌكُن" من التنصل منها.

لذا لم يعد الإتفاق بذا قيمة سوى إنها كانت رداء يوسف او قميص عثمان او البشكير على خاصرة (صلب) المؤتمر الوطنى. والمسرحية القبيحة التى لم تكتمل فصولها بعد رشحت لها الحركة الشعبية كى تظل لديها تواجد صورى فى أزقة الحكومة دونما السعى الدوؤب نحو إيجاد أرضية صالحة لتطبيق بنود الإتفاق ونصوصها.

لكن الحركة الشعبية فطنت لهذا الخبث السياسى وإرتأت فى 11/10 من العام الحالى تعليق مهمة وزراءها فى الحكومة الإنتلافية مع المؤتمر الوطنى، فيما رأى الأخير فىالخطوة تكريساً لعقلية الغابة وروح التمرد وعدم الإلمام بقواعد الإتيكيت والتحضر فى السياسة والدولة. ومن المدنية والتحضر ما قتل! فمن مدينة مدنى بولاية الجزيرة؛ وفى الذكرى ال-18 لتأسيس قوات الدفاع الشعبى كان الرئيس/ عمر البشير نفسه يخطب فى الجماهير داعياً المجاهدين والدبابين الى العودة الى معسكراتهم والتهيؤ الى الجهاد والحرب. سألت نفسى: الجهاد ضد مَنْ؟..وإذا كانت الحركة الشعبية تُوصف بالديماجوجية والغابوية والغوغائية، فبماذا نسمى نداء رجلاً ظل يعتلى الرئاسة فى السودان زهاء 18 عاماً، ومع ذلك يدعو فئة من مواطنى بلده ويحرضها على اللإقتتال ، بل التذابح على طريقة محمد طه محمد أحمد، فقط فى وضح النهار؟. وماذا نسمى رئيساً يحثُ ويحفز أبناء الوطن الواحد على الإستعداد فى وجه بعضهم البعض ؟. وهل هنالك مسوغاً يبرر بقاءه رئيساً للسوادن، بعد نيفاشا او قل خطبة مدنى-إن شئت؟!..

ألا يكفى الدمار والخراب والإغتصاب فى دارفور حتى نعيد الكر فى الجنوب مرة أخرى. لقد كان الرئيس يعى ما يقوله بالتمام والكمال، خصوصاً عندا أشار الى الحدود بين الشمال والجنوب محرضاً على ملاقاة كل من يتخطى ذلك وكأنه بيروتى من أيام الحرب اللبنانية ويتخيل الجنوب على أنه بيروت الشرقية بينما الشمال هو بيروت الغربية والحدود بين الشمال والجنوب هى الخط الأخضر. وحتى اللبنانيون اللذين نحروا بعضهم بعض إنتهى بهم المطاف الى وحدة وديمقراطية، رغماً عن الأزمات والتقسيمات، وان لبنان بلد يجمع كل اللبنانيين وللراحل جبران توينى عبارة عشقتها منذ ان كنت لاجئاً فى لبنان وتمنيت ان يخرج لنا سياسى سوداني جسور بمثلها. والعبارة فى غاية البساطة وتقول:" نقسم بالله العظيم مسلمين ومسيحيين ان نبقى موحدين الى أبد الأبدين دفاعاً عن لبنان العظيم عشتم وعاش لبنان". نعم حتى الدين فى لبنان مسخر من أجل الوحدة فيما نحن فى السودان لا نتخندق به إلا من أجل الفتنة والفرقة و الإنفصال وأشباههم والدليل هو قول قائل بأننا لا نُسأل يوم القيامة عن الوطن.وإن كان الناسُ لا يُسألون عن أوطانهم يوم الحساب، فما مغذى ان توقع، طائعاً ومختاراً، على إتفاق يقر بالمواطنة كأساس لحقوق وواجبات، طالما الإتفاق لا تدخل الجنة ؟. الآن جهابذة المؤتمر الوطنى- أمثال حاج ماجد وغيره ممن تم إستنفارهم فى خطبة مدنى، أناس أدمنوا التعامل مع العصى والسيخ والعكاكيز وبالتالى يكون المؤتمر الوطنى قد قفل باب الحوار تلقائياً مع الحركة الشعبية ليتأكد بأن الخيار الأوحد للوطنى هو خيار الحرب بأسم الدين.

ليس هذا فحسب، حتى اللغة الرسمية فى الخطاب صارت خشنة وجافة ، وخلت من الكياسة والدبلوماسية والرعونة حتى على مستوى رئاسة الجمهورية التى فشلت فى التعبير عن رأيها بطريقة جذابة ومقنعة بدلاً من الأسلوب الأقرب الى السوقية بالقول فى شأن تقرير لجنة الخبراء الدولييين حول أبييى "يشربوا مويته ويمصوه". هذه مأسة وطنية، وأن كان لى أقتراح بعد اليوم فهو ان يتم أختيار شاب او شابة فى مقتبل العمر، ممن أدوا إمتحانات الشهادة السودانية ليلقى او تلقى خطابات رئيس الجمهورية فى أى مناسبة من المناسبات العامة ، درءاً للفتنة وحفاظاً على الوحدة وإسكات لأصوات لا تمثل هذا الإنسان السودانى الملقب ب"الزول السمح". وإلا ، أين ذهب ذلك الصوت الذى حدثنا قبل أيام بأن دماء السودانيين ووحدة السودان عنده فوق أى خلاف ليتحول، بغتة ؛ الى صوت جهور ينادى بالويل والثبور ويصبح رجلاً قاسى القلب لا يجد مكاناً لكلمة السلام فى قلبه المسٍيج بعقدة الدين والعقيدة؟!

لا شك ان سيادة العميد(سابقاً)/ عمر حسن أحمد البشير كان جندياً شقياً فى منطقة "ميوم" العسكرية بولاية أعالى النيل وقد ذاق مرارة الحرب وإكتوأ بنارها كما تدفأ بكثيرها ولا يستقيم ان يمنى غيره بها، حتى وإن كان عدواً لدوداً من خارج حدود الوطن. كان الأجدر به، كرئيس دولة ان ينقى ذاكرته من الجثث المتردمة حوله فى الخنادق ويصفى النفس من البقايا البشرية المتناثرة على مساحات شاسعة من أرض المعارك أنذاك و يحصى عدد ضحايا الحرب ومن فُقدوا فيها، سيما الأطفال والأرامل، طالما هو نفسه يتكفل ويعيل أرملة صارت له زوجة وأولاد أصبح هو أبوهم الوحيد ، بسبب الحرب.

وإن كان المرء لا يدعى ملكية المعرفة والعلم، فهل للحرب صورة أخرى، لا نرأها ، ربما تكون أكثر سلماً وسلاماً بحيثُ، إن أستعضنا عن كلمة "عيد" فى البيت المعروف للمتنبئ وأطلقنا العنان للقول:

حرب بأية حال عدت يا حرب *** بما مضى أم لأمر فيك تجديدُ

نمكن أستاذة اللغة والفصاحة والبيان من إستخلاص معانى جميلة ومحاسن الحرب من البيت السالف؟.

المتنبئ نفسه لم يكن بالمتفائل بالأعياد، على تكرارها، لأنه لم يكن ليرى فيها من جديد او حديث، فما بالك بالحرب وعلاتها.

لقد دأبت الحكومة على وصف معارضيها، سواء فى التجمع الوطنى او حركات دارفور الرافضة للسلام معها، ب"معارضة الفنادق"، ألم يأتى دور الحكومة الآن لنصفها بحكومة "القصر" الذى صار أشبه بالفندق لأن البشير قد وجد راحته فيه، ويأمر بالحرب غير مكترثاً بالأرواح والأموال التى ستموت وتفقد غداً؟.

كان الأجدر بمن يدقدق طبول الحرب ان يُجابه بتظاهرات سلمية تطال جميع أرجاء البلاد وخارجها إشعاراً له بأن الشعب قد يأس ولا يمكنه جنى شيئاً من الحرب سوى الخراب.

لم يسلم من هذه العيوب حتى الجيش السودانى اوقوات الشعب المسلحة التى كانت كل بطولاته وبسالاته وتضحياته تتوج فى شكل سلاح مشهر فى صدر المواطن، إما فى الجنوب او الشرق او الغرب ولم نعرف عنه حرب إستبسلت فيه خارج حدود الوطن بأستنثناء مساندة القوات المصرية فى حرب سيناء ودعم القوات العربية على الحدود مع إسرائيل. بل لا يمكننا تكذيب قارئة الكف، ان قالت بأن الحرب واقعة فى حق أبيى ولن تقع بشأن حلايب.

بيد ان تعقيب السيد/ سلفا كير ميارديد على، قرار إعلان الحرب من قبل المؤتمر الوطنى بقيادة البشير، بقراره بأن لا عودة للحرب ، وجد أريحيةً منقطع النظير من قبل الشعب الجنوبى ، وأهالى المنطقة المهمشة وكل بيت وأسرة فقد عزيزاً له فى الماضى. لا شك ان الحركة الشعبية ترى بوضوح تام الفرق بين الحرب والسلام ومهما يكن لسلام من عيوب لا يمكن مقارنته بحالة الحرب او اللا سلم، غير ان ذلك لا يبرر ومسايرة الحركة رغبات شريكها فى الحكم على إجهاض الإتفاق، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس.

لكن الشريك الأكبر صمم على ملاحقة الحركة إذ إتهمتها بالعمالة والعمل ضد مصلحة السودان ونسى بأن رئيس الحركة ليس بجعلى عربى من الشرق الأوسط حتى يبيع قضية الوطن عند أول جادة او طريق فى واشنطن او نيويورك ومواقف الحركة معروفة قبل أى إرتباط لها مع الولايات المتحدة . وحتى ربان النقل النهرى من الجعليين والدناقلة والحلفاويين كانوا نفراً لا يترددون فى شق عباب النهر ، تحت جنح الليل ولعلعة الرصاصات، لتوصيل ما يمكن توصيله الى الجنوب من غذاء او دواء وكساء. لكننا نتفأجأ بالحتميات فى ظل دولة البشير، عندما يأمر جهة ما إدارة البواخر النيلية بعدم السفر جنوباً ، لأن الحركة علقت مشاركتها فى حكومة الوحدة الوطنية، ناسين بأن سلاطين الجنوب فى الأربعينيات رفضوا مقترح المستشار الإنجليزى،الذى إقترح على الجنوب اللحاق بدول شرق إفريقيا وكانت حجة السلاطين فى صيغة سؤال قائلين له: إن قررنا الإنضمام الى دول شرق إفريقيا فمن إين سيأتينا الملح؟.... وسكت الإنجليزى..

هذا السلام الهش ما هو إلا فرصة أخيرة ليكون السودان واحداً ومن يحب الحفاظ على تنوعه الفريد ووحدته إن ينأ بنفسه عن نعرات الحرب ويكون رفيق المواطن الحقيقى فى السراء، وليس فى ضراء الحرب ومزاميرها .

كيمو أجينق أبا

ألكسندريا/ فيرجينيا

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.