logo

Once again please allow me to share with you the article below from my friend Sayeed Yasser Arman's article about our late leader Dr. John Garang. He has written it in Arabic and would love to share it with other sudanese. Thanks


د. جون قرنق ..

حضور في سونامي الغياب5

ملاحظات في دفاتر الستينيات


فى القاهرة اجرى معى الصديق فيصل محمد صالح حوارا لجريدة الخرطوم وكان ذلك بعد سنوات من الغياب فى جنوب السودان وتطرقت للشيخ انتا ديوب وتلقيت بعدها رسالة من الراحل الدكتور محى الدين صابر دعانى فيها لمقابلته وحينما التقيته بمنزلة المطل على النيل فى ضاحيه الزمالك.


اهتم الدكتور محى الدين صابر بما ورد فى الحوار حول رؤية الدكتور جون قرنق للتعدد والتنوع التاريخى و المعاصر وسرعان ما سألنى عن اشارتى لانتا ديوب والذى عاصره فى باريس وتحدث عن سنواته فى غرب الاستوائيه ورسالته للدكتوراه والتى على ما اذكر انها تناولت الزاندى وعن صوره فى منزلة كانت للعذراء امراة سوداء فى كنيسة فرص والتى ذكرها انتا ديوب فى احدى كتاباته واستمر حوارى معه فى زيارات مختلفة للقاهرة و سألته عن محى الدين صابر النوبى وعن رؤيته لحقب ما بعد الاستقلال والتى شارك فى بعضها بفاعلية وعن اغفالها لابعاد ومكونات السودان الاخرى غير العربيه وغير الاسلامية والحاجه للاعتراف بمكونات السودان جميعا وان بلادنا وانسانها وشخصيتها نتاج حقبا طويله من التطور التاريخى والانسانى واهتم بالدوافع التى حدت بنا للانضمام للحركة الشعبية لتحرير السودان ونحن القادمين من شمال السودان.

ان الانتقاص من تاريخ السودان سيؤدى فى خاتمة المطاف للانتقاص من جغرافيته فتوجدالجغرافيا الفاعله حيث ما يوجد التاريخ والرؤيا ذات الوضوح و السعة. ولابد من العوده لبدايات تاريخنا، العوده الى ما بعد سنارعبدالحى الى حيثما عاد الشيخ انتا ديوب فى تفاعل مع القضايا المعاصره وفى تطلع نحو بناء مستقبل مشترك والانطلاق من التنوع والتعدد التاريخى والمعاصر.

فى باريس نشط انتا ديوب فى العمل السياسى الافريقى وواصل بحوثه التى شكلت لاحقا اثره البارز فى الدوائر الاكاديمية و العلمية حول دور السود فى حضارة وثقافة العالم ومدنياته ولم يقف مشدوها عند صورالحداثة ومنتجات الثورة الصناعية فى المجتمع الفرنسى بل اخذ يبحث عن جذورها ونفذ الى ما بعد الصورة ونظر خلف الاطار وتمتع يوما بعد يوم بثقافة واسعة ونقب ودرس واصبح عالما للغويات و التاريخ و علم الاجتماع ولم يترك الكيمياء و الفيزياء ممسكا بقضية حياته الاولى على نحو مستميت وبعقل جبار باحثا عن ادلة جديدة لاصول الحضارة الافريقية القديمة و المبادئ المشتركة لحضارة افريقيا و العودة بالانسان الافريقى الاسود الى مجرى التاريخ الانسانى، بعيدا عن التهميش الذى لحق به ساعيا نحو مصالحة انسانية كبرى ومن هنا تاتى اهمية بحوثه من الناحيتين السياسية و الانسانية ، بالنسبة لبلادنا السودان التى لن ينصلح حالها مالم تتصالح مع واقعها وواقائعها التاريخيه و المعاصرة وان تكتشف القواسم المشتركة بين مكونات المجتمع السودانى وما حوله من جوار و الاعتراف بالمصادر المتنوعة و المتعددة دون تجزئة عملت على تشويه الانسان والشخصية السودانية بل ابعدته عن مصادر منعته ووحدته، هكذا تاتى العودة الى انتا ديوب فى ضرورة وقف عملية الحاق الافارقة السود بالثقافات الانسانية الاخرى ووقف التجاهل المستمرلمساهماتهم الجليلة فى الحضارة الانسانية مما ادى الى نظرة دونية تجاه الانسان الافريقى ، كرست الانقسامات على مستوى الدولة الوطنية فى كافة انحاء افريقيا وعلى مستوى التفاعل الانسانى العالمى وينطلق العالم الجليل الشيخ انتا ديوب بان الحضارة الافريقية هى الاقدم واثرت ايجابا فى الحضارات الاخرى دون ان تعطى نصيبها من الاعتراف وركز على اسهام مصر، وبمصر عنى انتا ديوب منطقة وادى النيل هذا موثق فى حوار تلفزيونى مسجل معه ، عن منطقة حوض وادى النيل وحتى غرب افريقيا وبذلك راى انه لا يمكن المصالحة بين افريقيا و التاريخ الا بالعودة الى مصر، ووادى النيل اصل الحضارات وان الثقافة و العلوم فى العالم المعاصر تدين فى ازدهارها لحضارة الانسا ن الاسود فى وادى النيل و نقب انتا ديوب فى العوامل الانثربولوجية و اللغوية وعقد مقارنة بين اللغة المصرية القديمة و لغات قبائل الولف فىالسنغال و لغات القبائل النيلية وتحدى اطروحات المركزية الاروبية فى عصرها الذهبى القائله ان اصل الحضارات شمال اوربا وانها انتقلت جنوبا و عبثا حاول المشرفين على رسالته للدكتوراة اقناعه بلغة ناعمة وخشنة ، وهو القادم من الريف الافريقى الذى اذا اراد ان يندمج فى دواوين الطبقة الوسطى و يكون من اصحاب الالقاب فى اوربا ما عليه الا ان ينحنى سمعا و طاعة ، لكن انتا ديوب كان صاحب رسالة اخرى ودخل فى معركة كبيرة سوف نتطرق لها لاحقا واعطى انتا ديوب فى بحوثه الاجيال الجديدة من المثقفين الافارقة ايمانا اكبر بجذورهم و فاعليتها و امكانية قيام مصالحة حقيقة بين الافارقة داخل دولهم الوطنية وبينهم وبين التاريخ الانسانى وامكانية الدعوة لوحدة افريقيا ودولها الوطنية على اساس خصائص التاريخ العامة المشتركة ومن هنا تاتى العلاقة القوية بين الشيخ انتا ديوب و الدكتور جون قرنق دى مبيور و قد اضحت اطروحه انتا ديوب فى صياغها و استنتاجاتها العامه مع ربطها بخصائص الواقع السودانى وتاريخه الخاص شكلت مكونا هاما فى اطروحة السودان الجديد عند قرنق مبيوراتيم ، ولان الاحلام هامة فان افريقيا لم تخلو من صور شاعرية عند انتا ديوب ، يشارك الدكتور جون قرنق دى مبيور انتا ديوب نظرته الثورية تجاه رد الاعتبار و اعادة واستعادة التاريخ و الماضىاالافريقي وضرورة استخدامه كعامل من عوامل الوحدة لا الشقاق ، اطروحات انتا ديوب شكلت مصدرا خصبا للابعاد التاريخية لفلسفة و رؤية السودا ن الجديد عند الدكتور جون قرنق دى مبيور واى دراسة رصينة للمصادر الفكرية و السياسة التى نهل منها الدكتور جون قرنق دى مبيور لابد ان تتوقف على نحو مطول عند انتا ديوب وقرنق مبيور اتيم المؤمن بضرورة ربط الحاضر بالماضى تجاه البحث عن مستقبل افضل و اجمل ، وجد فى انتا ديوب مساندا قويا يعطى مشروعية تاريخية لمشرو ع السودان الجديد واقامة وحدة السودا ن على اساس صلد وصلب بالنظره لماضى الشعوب السودانية بل الدكتور جون قرنق ذكر فى احاديث و حوارات عديدة الروابط بين افريقيا و جوارها الاسيوى العربى ومعلوم ان العرب الذين يقطنون افريقيا اكثر من الذين يقطنون اسيا ولم يسعى الدكتور جون قرنق دى مبيور فى دعمه القوى لاعادة الاعتبار للماضى الافريقى ومساهماته الجليلة بان يضعه فى تعارض و تضاد مع مكونات السودا ن العربية و الاسلامية بل عبر مرارا مثل ما عبر مانديلا بان الاسلام و اللغة العربية ينتميان الى اللغات و الديانات الافريقية ومن المهم الاعتراف بان مصالحة السودان مع تاريخه على نحو من الحقائق والانصاف يدفع اتجاه وحده السودان.

افريقيا نفسها عند انتا ديوب كانت حقلا رئيسيا لبدايات التدين الانسانى و المحاولة للتعرف على اله خالق للكون واثبتت صحة الاكتشافات اللاحقة ، ان احلام انتا ديوب واطروحته العلمية فى وقائعها المثيرة للجدل وللذهن الانسانى وفى تحدياتها و تجلياتها المعرفية لكبار المؤرخين وعلماء الاجتماع و اللغويات الاوربيين ، و المرارة التى احسو بها تجاه هذا التحدى من طالب دراسات افريقى. وقد كان انتا ديوب شيخ (ذو سر باتع).

ولداوؤد يحى بولاد (المهندس) هتف الاسلاميين (عائد عائد يا بولاد) حينها كان زعيما لهم وكان معتقلا كواحدا من قادة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم سيحتوى هذا الهتاف كل دارفور، ذهب بولاد للقاء دكتور جون قرنق فى مريدى و ساله: لماذا تركت الحركة الاسلامية وانت كنت من قادتها وقررت الانضمام للحركة الشعبية ؟ فاجاب بولاد: لقد اكتشفت إن الدم اثقل من الدين و هو تحوير لمثل انجليزى و قد عنى داوؤد بولاد فى شرحه اللاحق ان القضايا و الروابط الاثنية تمارس تاثير كبير حتى داخل الحركة الاسلامية كما ذكر لى لاحقا و الحركة الاسلامية من التنظيمات الحديثة التى يفترض ان تبنى روابطها خارج الانتماءات الابتدائية و قد لاحظ البعض مؤخرا انه فى اقسام من الحركة الاسلامية اصبحت الروابط الاثنية مؤثرة فى التيارات داخلها كما ان التساؤل ظل قائما و الذى حاولت ان اجد له اجابة عند عدد من اصدقائى الاسلاميين فالحركة الاسلامية لم تتخطى سقف محدد فى اسناد المناصب الهامة لقياداتها من الجنوبيين ولم تسند لهم وزارات سياديه مثل وزارة الخارجية، المالية، والدفاع مع وجود قادة اسلاميين مخلصين فى انتمائهم دفع بعضهم حياته ثمنا لذلك فهل يرجع ذلك لاى تاثيرات إثنية؟. واثبتت حياة الدكتور جون قرنق ان حمل البندقية و ما اسهل حملها عند مناضل او مجرم يحتاج لرؤية و مشروع تطرحه للناس قبل ان تشهر السيف او تذهب للحرب بغضب عليك ان تفكر فيما تحارب من اجله او كما تقول الحكمة الصينية (على الرجل الغضبان ان لا يعلن الحرب لان غضبه سيزول ولكن الضحايا لا يعودون) وكان انتا ديوب مصدرا بالغ الغنى اسهم بفاعلية فى النظرةالجدية لتوحيد السودا ن على اسس جديدة قائمة على الحقيقة و المصالحة بين الانسان و التاريخ بين الحاضر و الماضى و المستقبل وانتا ديوب يستحق الاحتفاء من جمهور المثقفين السودانين. وجد الدكتور جون قرنق عند انتا ديوب نبعا فكريا صافيا فى احلامه الكبيرة نحو وحدة السودان على اسس جديدة متسقة مع تاريخه ومنسجمة مع السعى نحو وحدة افريقيا و من الواضح انه لا يمكن المحافظة على وحدة السودان الطوعية الا بالعودة فى جانب من جوانبها للمصالحة مع تاريخ السودان نفسه وقدعمل الدكتور جون قرنق بدأب على استدعاء الابعاد التاريخية و المكونات المختلفة التاريخية و المعاصرة و استيعاب تاثيراتها على الشخصية و النفسية الاجتماعيةالسودانية و هو المفكر و السياسىالاكثر صرامة فى تاريخ السودان الحديث الذىيستدعى التاريخ كمكون رئيسى فى اطروحته و كنقطة ارتكاز فى الدعوة نحو الوحدة و المصالحة الشاملة بين شعوب السودان ولم يتوقف الدكتور جون قرنق عند انتا ديوب وحده بل رجع للكتاب المقدس ومراجع متعدده عن تاريخ السودان.

وفى بحثه عن السودان الجديد يسترجع الماضى فى كل مراحله وحتى بداياته الاولى للعبور للضفة الاخرى من المستقبل كل ذلك مرتبط بالسعى لانسجام وطنى واقليمى يحتفى فيه بعبقرية الانسان و التاريخ والواقع المعاصر علىنحو ديمقراطى و انسانى و من المهم هنا ان ندرك بان المعرفة بالتاريخ تهذب التعامل الانسانى مع السلطة و القوة و ادراك ماضى وحاضر و مستقبل الظواهر و التاريخ الانسانى.

حينما زار الدكتور جون قرنق دى مبيور مصر، للمرة الاولى فى 1997 ورغم ازدحام برنامجه بالعديد من اللقاءات الهامة الح على الذهاب الى زيارة الاثار المصرية القديمة وشد انتباه المثقفين المصريين بمعرفته التاريخيه العميقة واستناده والمامه الدقيق بتاريخ حضارة وادى النيل القديمه فى تعامله مع الحاضر والمستقبل وكان الشيخ انتا ديوب حاضرا و ضيفا جليلا فى مقدمة الوفد الزائر وذات مرة التقينا فىباريس مناضلا مصريا عتيقا وتاريخيا فى حركات التحرر المصرية دهشت لحديثه المطول و تقديره العميق لرؤيةالدكتور جون قرنق دى مبيور و رغبته فى لقاءه وان رؤية السودان الجديد ترتبط فىذهنه بنضالات قوى التحرر الوطنى بل هى امتداد لها فى وجه من وجوهها.

شدد انتا ديوب بان الرجوع الى مصر فى كل الابعاد و الاتجهات شرط ضرورى لمصالحة الحضارة الافريقية مع التاريخ ، ومن اجل بناء جسم حديث لتاريخ العلوم الانسانية و لاحياء الثقافة الافريقية ، واكد ان ذلك العمل لا صلةله بالدعاية و التهريج اومحاولة استخدام الماضىالقديم فىتعميق الصراعات الحالية بل هو عمل دوافعه العميقة ترتكز على تحقيق مصالحة مع الذات كشرط ضرورى من شرو ط المصالحة بين الشعوب الافريقية و التاريخ الانسانى وبالطبع فان السودان ياتى فى المقدمة.

فى عام 1954 دفع انتا ديوب برسالته الى الدكتوراه و التى تم رفضها للطباعة ، غير عابىء بالرفض و صدرت فى كتاب شهير بعنوان " الامم السوداء و الثقافة " وخاض معركة شرسة مع النافذين فى الدوائر الاكاديمية الذين بخسوا من جهده و الذى وصفته الدوائر الاكاديمية لاحقا بانجيل التاريخ الافريقى ولان الشيخ انتا ديوب فى رسالته للدكتوراه ورسائله اللاحقه اتى باسانيد علمية اذهلت الدوائر الاكاديمية و فى 1960 وبدعم من بعض علماء اجتماع و مجتمع و تاريخ وبعد اصراره ورفضه المرة تلو الاخرى لتبعية تاريخ مصر لاوربا او اسيا او البحر الابيض والحق هزيمة منكرة بكافة الدعاوى الاكاديمية التى رفعت فى وجهه. اخيرا تفضلت جامعة السوربون العتيدة بعد ما يقارب العشر سنوات واعطيت شهادةالدكتوراة للعالم و البروفسور الشيخ انتا ديوب التى لم يكن اصلا يحتاجها وواصل اصدار كتابه القيم ( حضارة ?مدنية ام بربرية) مضيفا مزيدا من الادلة ان المصريين ينحدرون من مجتمع اسود، وتحدى النظريةالقديمة بان الحضارات الافريقية حضارات فقيرة ولا جذور مدنية لها مقارنة بالحضارات الاخرى و جمع ادلة و شواهد علمية عديدة بأن الحضارات الافريقية هى التى اثرت على ثقافات الاغريق و الرومان التالية للحضارة الافريقية ولكن يجب التاكيد بان الشيخ انتا ديوب لم يكن داعية لتفوق حضارة على اخرى عبر اثبات تفوق الحضارة المصرية الافريقية القديمة بل قامت نظريته على ان المجرىالطبيعى و الحق الطبيعى هو ربط الثقافة الافريقية بتاريخ الثقافات العالمى وبانها امتداد و ليس دعوة للهيمنة وهى جزء من المحاولة الانسانية الكبيرة للمصالحة بين الجماعات البشرية تقوم على الحقائق والاعتراف بالمساهمة المتبادلة فى الارث الحضارى و الثقافى العالمى المؤدية لتوازن الحقوق و الواجبات فى عالم اليوم وان الاضطهاد الذى تشهده المجتمعات الانسانية المعاصرة ترجع جذوره التاريخية لهذه المسالة فى جانب من جوانبها.

يرجع تفكير ديوب و مشروعه لارث ثقافى كبير و للتنوع التاريخى لمنطقة غرب افريقيا ولمكان مولده ولم يجد ديوب صعوبة فى مصالحة بين اسلامه وواقع افريقيا التاريخى و المعاصر و مساهمتها فى التاريخ و المساهمة الانسانية وبلادنا السودان معنية باطروحة ديوب بل هى هدية من التاريخ لشعبنا ليعبر نحو المصالحة القائمة على الحقائق ، وقد دفع الدكتور جو ن قرنق مستفيدا من اطروحات ديوب و اخرين بمشروع وطنى تحررى هو مشروع السودان الجديد الذى يستند على التعددية و التنوع التاريخى و المعاصر لشعوب السودان لبناء وطن جديد ، متجاوز للفوراق الاثنية و الدينية و الجغرافية وان الذى يجمعنا هو السودان و قبل ان نكون افارقه ام عرب، مسلمين ام مسيحيين، جنوبيين ام شماليين، من الغرب او من الشرق او من الوسط فلنكن سودانين اولا. و السودان و مثقفيه احوج لانتا ديوب حتى وان تغافله الاخرين فى افريقيا.

وكم تحتاج جامعاتنا ومدارسنا لتدريس تاريخنا البعيد و القريب، القديم و المعاصرعلى نحو جديد ، واضعين فى الاعتبار ان قراءة التاريخ جزء من المصالحة الوطنية. اثر انتا ديوب على نحو واسع فى حركات السود عبر القارات ، لا سيما فى الولايات المتحدة الامريكية وفى الكاريبى ، و مناطق متعددة فى العالم و زعامات كبيرة من زعامات حركات السود نهلت من معين انتا ديوب ولا يزال انتا ديوب مقروءا بكثرة فى دوائر حركات السود ، التى انتهى كثير من زعمائها نهايات ماساوية ، لا سيما فى ستينيات القرن الماضى ولاحقا سنجد ان الدكتور جون قرنق دى مبيور اتيم المفكر و السياسى قد خرج من بوابه الستينيات وتفاعل مع شخوصها ، قضاياها ، احداثها ،اطروحاتها و منابرها الحركية. ما بين تنزانيا الستينيات و كلية قرنيل الجامعية بالولايات المتحدة بالستينيات والتى كانت تعج بحركات الحقوق المدنية وحركات السود فى احدى نقاطها الاكثر علواَ وشهوقا و عبر اكثر ممثليها افصاحا فى التاريخ المعاصر مارتن لوثر كينغ، والتر رودنى، مالكوم إكس،إستوكلى كارمايكل، إنجيلا دافيس.....الخ. ومعلوم ان مصادر الفكر اليسارى التقليدى كان مصدرا رئسيا وهاما فى تشكيل الاطار العام لتفكير الدكتور جون قرنق مع ملاحظه هامه ان الدكتور جون قرنق تمكن من المزاوجة بين التمسك بالمبادىء و الرؤية الاستراتيجية و عدم الجنوح الايديولوجى والانزلاق لحلوله واجاباته السهله من جهة و من الجهة الاخرى ان يكون تقدميا عمليا ذو نظرة نقديه، وقد ساهمت بلا شك دراسته الاكاديمية فى الولايات المتحده الامريكيه ومناهجها المتطوره والرصينه ، فى احداث هذا التوازن المطلوب.

الزمان مساء الرابع من ابريل 1968 ، مارتن لوثر كنغ اطل من بلكونة الفندق فى مدينة ممفيس ولاية تينسى والتى اتى اليها ليقود مظاهرة تضامنا مع عمال النظافة السود مع زعماء اخرين من حركة الحقوق المدنية كان فى ريعان شبابه، 39 عاما وفى كامل تألقه السياسى ، وهو اصغر من حاز على جائزة نوبل للسلام وعمره لم يتجاوز خمسه وثلاثين عاما و قرر توظيف اموالها لمنظمات الدفاع عن الحقوق المدنية للسود و الملونين ، فهو مسجل كخصم خطير عند عدة دوائر وتم تحذيره من اكثر من جهة و اصبح نشاطه مزعجا للكثيريين اطلق عليه عند مولده مايكل لوثر كنغ المولود فى 15 يناير 1929 فى اطلنطا- جورجيا و الذىغير اسمه لاحقاَ ليتطابق مع المصلح المسيحى الشهير فاصبح مارتن لوثر كنغ، كان ذو صلة بالنقابات و بحركات عديده رافضة. ازدادت زعامته يوما بعد يو م و فجاءة اردى احدهم مارتن لوثر قتيلا من على بلكونة الفندق، اشتعلت امريكا و احياء السود و اصبح مقتله يوما للشقاق الوطنى حتى تم الاتفاق على جعله يوما وطنيا فى 1986 للاعتراف بالنضال من اجل الحقوق المدنية و الوئام الوطنى و لايزال خطاب مارتن لوثر كنغ الشهير بعنوان( لدى حلم) و الذى القاه فى النصب التذكارى لابراهام لنكولن فى واشنطن فى 1963 يمتد كصلاة طويلة الى اليوم على الرغم من ان المدة القصيرة التى عاشها الدكتورمارتن لوثر كنغ فانه يبدو اسطوريا و نجما ساطعا ولد حين مات وحضر حين غاب.

فى باريس واصل انتا ديوب ترسيخ اقدامه وبناء مجده عبثا حاول بعض الاكاديمين الاتفاق مع ديوب عن دور مصر التاريخى فى الحضاره الانسانيه وتحدثوا عن ان الانسان الاسود هاجر الى مصر بعد اكتمال بناء حضارتها ، صفعهم انتا ديوب بادلة جديده بأن الانسان الاسود كان موجود منذ البدايه فى مصر ووادى النيل وقدم بحثا فى علم الاجناس وظهور الانسان الاسود واستخدم لاحقا معمله ( لراديوكربون) فى السنغال وتقدم بنظريته عن ( الملانيين-البشره ) وقدم ادله حول ظهور الانسان الاسود والابيض فى ارجاء العالم واستند على شهادة تاريخية هامه غير مجروحه وصادره من اوربا نفسها وهى كتابات المؤرخ الاغريغى العظيم ( هيرودوت) عن ملاحظاته ومشاهداته عند زيارته لمصر ذلك الزمان حينما كانت مصر مركز الحضاره لا اوربا وقد ذكر هيرودت بأن الانسان فى مصر له بشره سوداء داكنه وهى شهادة لم تخدع للتلفيقات التى تخدم اغراض سياسية وذات غرض ورد الشيخ انتا ديوب ( الشيخ ذو السر الباتع) على بضاعة الاوربين ببضاعه رجل من اوربا واختير الشيخ انتا ديوب فى اللجنه العلميه العالمية لكتابة تاريخ افريقيا والتى قامت بعمل جليل و ضخم فى الفتره من عام 1961 الى عام 1986 واصدرت مجلدات اليونسكو الهامه حول التاريخ العام لافريقيا كجزء لا يتجزأ من التاريخ العالمى وهى اطروحه انتا ديوب المركزيه وقد وجد انتا ديوب اعتراضات كثيره فى اثناء عمل اللجنه على افكاره اتى بعضها من جمال مختار! من مصر والان فى مصر تجد اطروحات انتا ديوب قبولا متزايد الاتساع فى دوائر اكاديميه وثقافية مهمه وقد ذكر الشيخ انتا ديوب بأن الاعتراف باسهامات الافارقه السود فى العلوم والديانات لاسيما فى وادى النيل بأنها اضافة حقيقه للهويه الثقافية الافريقية وهو يؤمن بان ذلك يمثل قوة توحد وانسجام داخلى أفريقيا وعالميا.

فى القاهرة وحينما قمت بزيارة المتحف المصرى فى ميدان التحرير دهشت بأن ذلك المتحف يقدم دليلا حيا وقاطعا عبر العين المجردة وهى تتجول بين الموميات والعبقريه الهندسيه ،الفن ،والابداع منتجات علوم الكيمياء والفيزياء والفلك فى مصر القديمة مدللة على صحة انتا ديوب وفى مره اخرى رافقت و راقبت عن كثب الدكتور جون قرنق دى مبيور فى زيارته لذلك المتحف والسعادة التى غمرته وهو يلتقى بأنتا ديوب مرة اخرى فى عام 1997 عبر معروضات المتحف المصرى التى تقف دليلا ساطعا فى صف انتا ديوب.

كان الصباح فى بداياته ونحن فى محطة بحرى للقطارات فى طريقنا الى حلفا القديمه نهاية ديسمبر 2006، ضمن حملة بناء الحركة الشعبية التى تمر وتتقاطع خطوطها مع انتا ديوب والعوده للتاريخ للدفع بقضايا وحدة افريقيا وبلدانها الوطنيه والسودان الموحد طوعا واختيارا هو وحده الذى يمكن ان يخدم العالمين العربى والافريقى وفاقد الشئ لا يعطيه والعرب انفسهم هم الاولى بالاهتمام بوحدة افريقيا لا سيما ان غالبيتهم تقطن فى افريقيا، اى العرب، اكثر من اى قارة اخرى فهم فى كامل شمال افريقيا ومصر، وتواجههم نفس الاسئلة التى تواجه افريقيا ويحتاجون لنفس الاجابات وهكذا كانت محاولات الامس بين عبدالناصر وكوامى نكروما واحمد سكتورى وهوارى بومدين.

قررنا ان نذهب مع جمهور المواطنين فى قطارلا يخشى الزمن ولايحفل بقيمته وقمنا بشحن السيارات التى سنستخدمها فى طريق العوده من حلفا القديمه الى الخرطوم ما يهمنا الان ان المنطقة التى كنا نقصدها شكلت حضورا وهما شاغلا فى أطروحات انتا ديوب والان يتشكل تيار فى طريقه الى الاتساع بأن بدايات حضارة وادى النيل وعلى نحو اخص بناء الاهرامات بدأ فى المنطقة الواقعه شمال الخرطوم و المذهل هو تجاهل حكام السودان وعدم اهتمامهم بتاريخ بلادهم واعادة اكتشافه، بل ان احد الوزراء قد طالب بالتخلص من مقتنيات هامه للسودان وللحضاره الانسانيه جمعاء بالمتحف القومى ولم يسأله احد لا فى الوزارة ولا فى البرلمان!!. وذات مره قال لى سائق تاكسى مصرى لماح وذكى ونحن فى طريقنا من منطقه الهرم " الله يرحم الفراعنه هم عاشين وميتين عيشونا" فى اشارة لاهميه السياحة.

ذهبنا الى حلفا القديمه وانتا ديوب يرنو بنظراته الواسعه نحو حلفا القديمه نحو تاريخها خوفا من ان تضمره المياه قبل التحقيق والتمحيص والتدوين ويبادلة اهل حلفا الهتافات( حلفا قديمه ولا باريس) وهى سابقة لباريس وان تعددت وتبدلت اسمائها متجاوزين احداث عديده فى رحلتنا وملاحظات عديده ومحطات عده والقطار يزحف على مدى يومين والبرد قارص والتراب الناعم يجد طريقه بسهولة ويسر الى داخل عربات القطار، التراب الذى مره فوقه تهراقا وزارح، الملوك والمكوك ،الكنداكه، العذراء امراة سوداء فى كنيسة فرص وبوهين، مروى، والبجراويه وديانات التوحيد القديمه والمغره وعلوه وزكريا بن جرجة الملك المسيحى السودانى يستقبل فى شوارع بغداد العباسية ودنقلا العجوز والبقط، خيول الاتراك ،الانجليز، واسماعيل باشا، والمك نمر ومهيره و الامام المهدى دنقلاوى من جزيرة لبب يتحدث العربيه واللغة النوبية ( وان تكن دنقلاوى فهو عين الشرف لا تبحث عن الانتماء خارجه) والانتصارات والهزائم والخيانات ود النجومى فى رحلته الاخيره يابى الرجوع رغم توفر الدابه المسرعة، محمود ود احمد، وعبدالله ودسعد .....و.....و......و......الخ. حتى طريق الانقاذ كثير الحوادث وقليل اجراءت السلامة.

كنا وجه لوجها مع جمهور حاشد استقبلنا فى محطة القطار وازدادت الحشود تقاطرا فى ندوه فى مدرسة بيرم ولم نتوانى عن قول الحقيقة وقلنا ما قاله انتا ديوب عن اللغات والتاريخ النوبى وعن اهميته لانسان السودان وللبشريه جمعا وان التنميه ومروى وكجبار يمكن مصالحتها مع الانسان الذى تستهدف خيره ومع التاريخ والجغرافيا وان اتفاقية السلام جعلت من اللغات السودانية جميعا ( ليس رطانات بل لغات ) لغات رسميه بنص الدستور وتدريسها لا ينبغى ان يتقاطع مع اللغة العربية بل يضيف لثراء بلادنا الثقافى والانسانى ويمهد الطريق لمصالحة وطنيه شاملة قائمة على الاعتراف بالاخرين وحقهم ان يكونوا اخرين. وان اللغات النوبية ارث ثقافى عظيم وتشبث النوبين بأرضهم ولغاتهم لا يصب فى خانة العداء للعروبة او الاسلام بل ان الاسلام نفسه اتى عبر بوابتهم المشرعه للتفاعل منذ الاف السنين.

وعرجنا ليلا بمنعرج اللواء واستبنا الصبح فى دلقو المحس قرية وادعه يحن اليها محى الدين صابرالنوبى وتحن الية وهو يحدثنى عن طفولته فى منزلة المطل على النيل بالقاهرة ومررنا بصوارده وبها بقايا حنين وألفة وتكاد تطوى صفحتها الاخيره بعد ان بعثت وردى حيا يشعل الحب فى سماوات البلاد وربما التقينا فى طريقنا بيعانخى و الفيلسوف اركمانى وبقايا من معبد ابا دماك واسترقنا الليل و السمع عند ميلاد الصباح فى عبرى وارتشفنا الشاى هناك وما زال جيلى عبدالرحمن يغنى " احن اليك ياعبرى...حنينا ماج فى صدرى ... واذكر عهدك البسام.. ولا احد من الكبار يذكر عهد عبرى او اللغة النوبية وعهدها البسام. ومضينا فى صحبة النيل حامل البشر والرسالات الى ارقو وكرمه النزل وكرمه البلد وعبرنا النيل عند بنطون السليم الذى يمضى غير مكترث بالامواج وتارة يتوقف فى عرض النهر وتهمد ماكنته ردحا من الزمان دونما انذار وتتقاذفة الامواج يمينا ويسارا وقد رحب بالوزير الياس نامليل متوقفا عن مواصلة الرحله وهامدا ولا حياة لمن تنادى وفى احدى وقفاته وضعت امراة مولودها فى عرض النهر وهى تحاول الوصول الى مستشفى دنقلا وعند الضفة الاخرى ما زال صوت جون قرنق يتردد ويتمدد فى مساحات الزمان والمكان ( عباد الله فلننقل المدينه الى الريف لا الريف الى المدينه ).

ثم عبرنا مرة اخرى من دنقلا الى السليم وتحدثنا الى المزارعين فى سوق السليم ومحصولاتهم من البلح والبصل والفواكه والفول لاتجد المعزيين والبائيعين والمشترين حيارى ومواسمهم لا تجلب حتى نفقات الانتاج واقمنا ندوة على ظهر عربة (كارو) تبرع صاحبها بأن حولها الى منبر وانطلقنا من بعد ذلك نحو كريمه وحينما ادركناها اطل علينا جبل البركل المقدس فالديانات فى البدء كانت على النيل الذى حفظ تاريخ البحث عن الاله الواحد فى الارض ممهدا التربه حتى ادركتها رسالات السماء للبشر ومازالت نفرتيتى( الجميلة ) يطل عنقها الفاتن على مر التاريخ بلا منافس من كل ملكات الجمال وعارضات الازياء حتى ظهور باريس هيلتون الاخير وهى تنجب اخناتون موحد الديانات فى مصر القديمه بصليب وهلال اصبحا رمزين لاعظم ديانات السماء على الارض ومرت الاديان على النيل ولم تنقطع وخرج النبى موسى من مصر واعتنق اول سودانى المسحية فى عام 38 م فى ارجح الروايات وتحدث الكتاب المقدس عن ارض كوش التى انطلق ملكها زارح الى ارض فلسطين وقامت دول مسيحيه فوق ظهر النيل لما يقارب الالف عام فى شمال السودان وكانت اوربا تحت صولات الفايكنز القادمين من شمال اوربا والذين لم تاتيهم ديانات السماء بعد. وعبرنا الى مروى بيرمنقهام افريقيا التى صهرت الحديد حينما كانت الثورة الصناعية ادقاس احلام ومن المسحية لا زالت هنالك بقيه فى صليب الكحل الذى ترسمه النساء لاطفالهن ويذهب العرسان الى النيل فى موكب اقرب الى التعميد بالماء واهرامات مروى لا تزال شامخة .... ثم ياتى عبدالله بن ابى السرح ولم يتمكن من فتح السودان ووقع اتفاقية البقط فى عام 641 م والتداخل والاختلاط والتجارة ورجال الطرق الصوفية فى غير عجلة من امرهم اخذوا واعطوا ( زور مرزوق خد ليك خبه .... شوف مطر الرجال كيف صب.... كربنا شديد) ( ابو فزعا جرى) يأخذون ايقاعات افريقيا والنوبه تئن وترن وياخذ الشيخ وظائف الكجور الافريقى فتلد المرأه التى لا تلد وتاتى المطرة التى تستعصى عند المحل وكل ذلك بأذن من الله وفى انسجام بين ما وجدوة فى ارض السودان وافريقيا والذى اتوا به وجبل البركل المقدس شاهدا على عشق الديانات ومن النقش والتحالفات بين القوى الاجتماعية الصاعدة تولد دولة سنار واسمها السلطنه الزرقاء والالوان ليس لها حساسية انزاك عاكسة واقع اهلها كما يبدو فى المراة التى لا تكذب فى ذلك الزمان. قامت السلطنة الزرقاء بعد تسع قرون من الدعوه و التبشير المتواصل وساهمت القبائل الافريقية فى دارفور والسلطنة الزرقاء. منفرده ومتحالفة فى نشرالاسلام واوى ادم ام دبالو الثورة المهدية فى جبال النوبة والامام المهدى يرتقى الجبل الى العباسيه تقلى ولم تكن لتنتصر لولا مجهودات النوبة الجليلة الذين يمتد تأريخهم حتى جبل البركل المقدس. وسمى السودان سودان وهو جمع ل( سود) والسودانين فى هارلم- نيويورك كلهم سود من الشاقية ام من الزاندى من الجعلين ام الدينكا من النوير ام الدناقلة من البجه ام الفور وكلنا فى الهم شرق.

عند منحنى سد مروى اطلت علينا قرية الكسنجر التى منها انطلق اولاد حاج الماحى مداح النبى الاوفياء الذين دخلوا القرى والبيوت والمدن والقلوب متصالحين مع الذات يلومون انفسهم ويدعون الى الزهد. رويدا رويدا وجد الشيخ انتا ديوب اعترافا متزايد به كرائد من رواد المصريات ولغوى وانثربولوجى ومتخصص فى العلوم ومؤرخ وقد كان انتا ديوب مثقف ثورى من طراز رفيع ومقاوم لا يهزم وذو ذهن جبار نافذ لم يكتفى بالانبهار باروبا والسباحه فى التيارات السائده وسبح عكس التيار ولم يتوقف عند الاستيعاب والاستهلاك فى لحظة الحاضر بل انتج بالعودة للماضى الافريقى واكد مرارا ان اعادة اكتشاف الماضى الافريقى ورده الاعتبار له يجب الا يكون عامل شقاق بل يجب ان يسهم فى توحيد الافارقة فرادى وجماعات وربط افريقيا بعضها ببعض شمالا وجنوبا و تمكين الافارقة من حمل رسالة تاريخية جديده ومن اجل مستقبل افضل للانسانية وعدم منحه الدكتوراه الا بعد مجهودات مضنية لا يزال وصمة عار وفضيحه اكاديمية كبيره.فى عام 1966 كرم المهرجان العالمى للفنون السوداء فى داكار " المثقف الاسود الذى مارس اكبر نفوذ مستمر فى القرن العشرين" كان ذلك هو انتا ديوب وواصل انتا ديوب كتاباته فى عام 1981 طبع كتابه " حضاره ام بربريه" الذى يعتبره البعض العمل الاكبر للشيخ انتا ديوب و كان عباره عن تلخيص لبحوثه السابقة عمل ديوب محاضرا فى جامعة داكار فى الفترة ما بين عام 1961 وحتى عام 1986 عام رحيلة وانشأ معمل ( الراديوكربون) الوحيد فى افريقيا وقدم بحوث عن افريقيا ما قبل الكولونيالية.

لم يكن انتا ديوب مثقفا عاطلا او متفرجا على ما يجرى فى بلاده السنغال وشارك بفاعلية فى الحركة السياسية فى السنغالية وقام بتأسيس كتلة الجماهير السنغالية فى عام 1961 والجبهة الوطنية فى عام 1964 وقد تم حظرهما جميعا بدعوى ( انهما يهددان سلامة الاوضاع بالبلاد) !! ولكنه خلف اثره البارز فى بحوثه حول دور السود فى حضارة وثقافة الانسانية. وانتا ديوب عنوان من عناوين النجاح الاكاديمى الافريقى ومثقف وعالم كبير يحظى بالاحترام فى كافة افريقيا وخارجها وعند جماعات السود المناضلة ومن النادر ان تلتقى بمتعلم من السنغال لا يصلح انتا ديوب كمدخل حاضر للتعرف علية. وقد اضحى مفروقا منه الان دقة وصحة اطروحة انتا ديوب حول مساهمات الحضارة الافريقية القديمة فى الثقافة والعلوم والفنون والديانات لاسيما فى وادى النيل الذى شهد تطورا كبيرا فى علوم الهندسة وبدايات الفيزياء والكيمياء والطب.

فى 27 يونيو 2007 نقل تلفزيون الجزيرة مؤتمرا صحفيا لوزير الثقافة المصرى فاروق حسنى اعلن فيه ان احد الموميات المكتشفة قد تم التاكد من انها للملكة حتشبسوت التى حكمت نحو عشرين عاما وهى من ضمن ملكات اخريات حكمن مصر ووادى النيل قديما مما يضع اسئلة حول اهميه الدورالذى لعبته النساء فى حضارات وادى النيل القديمة قبل ان تطرح قضايا النساء بشدة على اجندة المجتمعات المعاصره.

الدكتور جون قرنق دى مبيور كان مبدعا فى تقديمه لرؤيته حول السودان الجديد ولم يردد اطروحات حركات التحرر الوطنى ويقحمها بتعسف على الواقع السودانى بل قدم اطروحه جديده مستندا على أرث حركات التحرر الوطنى ومستوعبا لمنهجها وناظرا بذهن مفتوح لخصائص الواقع السودانى التاريخية والمعاصرة وعالج قضيتى القوميات والدين كقضايا رئيسيه من قضايا البناء الوطنى نحو الوصول لدولة حديثة تعترف بالتعددية والتنوع واستفاد فى دراستة للابعاد التاريخية من اطلاعه على مجمل تاريخ افريقيا وكداعية قوى ونافذ لوحدة افريقيا والتى عبرها توصل لضرورة الدعوة لوحدة السودان على اسس جديدة والسودان يعتبر افريقيا مصغره يحمل فى احشائه كل تناقضات وقضايا المجتمعات الافريقية واشكاليات الدولة الوطنية ما بعد رحيل الاستعمار وفى ذلك فان علاقته الفكريه مع انتا ديوب جاءت مساهمات ديوب غير المعزولة من مساهمات مجموعة كبيرة من المثقفين الافارقة وجماعات السود خارج افريقيا المهتمة بوحدة افريقيا والتى جسدتها على نحو متصل مساهمات( البان افريكنست ) وفى مرحلة تنزانيا والولايات المتحده الامريكية كانت هذه القضايا محل انتباه واهتمام جاديين للدكتور جون قرنق اطلع خلالهما على مساهمات ديوب ومفكرين ومثقفين اخريين كثر وشارك بصورة مباشرة فى الكفاح من اجل القضايا التى امن بها حتى الحظات الاخيرة لرحيلة العاصف. سلطت الاضواءخلال هذه المقاله للتعريف بانتا ديوب ووالتر رودنى كرمزين فكريين لمجمل الانتاج الفكرى والتيار الذى تفاعل معه الدكتور جون قرنق فى مرحلة الستينيات وما بعدها ولم يتوقف عنده بل كان دائم وواسع الاطلاع طوال فترة حياته المضيئة ويمكن بالفعل القول ان انتا ديوب ووالتر رودنى يصلحان كرمزين فاعلين لنوعيه المصادر الفكريه والسياسيه التى اطلع وتفاعل وإنفعل بها الدكتور جون قرنق دى مبيور.

فى الكاريبى الذى تعج بلدانه بافارقة سود كانوا حصاد رحلات تجارة العبيد و ماساتها الكبيرة على المجتمعات المحلية و الجديدة التى نهض سكانها من رماد تجارة الرقيق وبداوا من الصفر فى تاسيس مجتمعاتهم الجديدة مستندين على ما تمكنوا من حمله من بقايا ذاكرتهم وعلى جيناتهم التى تقاوم، و شهدت تلك المجتمعات ثورات عديدة للسود اشهرها ثورة سان دومينقو-هايتى التى شملت معظم بلدان الكاريبى و قادها القائد دومينقو تاوسنت الذى يعمل ممثل هوليود الشهير دانى قلوفر على انتاج فيلم عن ثورته والسود الذين تمكنوا من هزيمة البريطانيين و الفرنسيين و دانى نفسه مثل والديه كان ناشطا ولا يزال فى سان فرانسيسكو من اجل حقوق السود والملونين و اقام دومينقو تاوسنت دولة استمات فى ان تكون لكل الاعراق بما فيهم البيض من ملاك العبيد السابقين بعد نجاح ثورته. وقال مورغان فرى مان نجم هلى وود الاخر حينما قاطع الاحتفالات السنويه بالحقوق المدنيه وثقافة السود " لماذ تركزعلى لونى وتقول لى اسود وانا لا اذكر لونك واسميك ابيض ". الزمان القرن الثامن عشر يكاد يسدل الستارعلى فصوله الاخيرة و جزر الكاربيى تعيش فى ظلام وظلم انسانى ، وعالمها الداخلى والباطنى يضج بالغضب و بالمستعبدين المتزمرين البائسين على شفا الثورة ، وفى باريس فى ذلك الوقت قامت الثورة الفرنسية 1789 و ارتفعت راياتها و شعاراتها الى عنان السماء فى ذلك الوقت وفى 1790 بعد عام او يزيد وصل جنود فرنسيين الى بورت برنس فى الكاريبى و كان الجنود و البحارة الفرنسيين سكارى بمبادىء الثورة الفرنسية التى اعلنت ان كل الناس متساويين واحرار وحينما نزل الجنود و البحارة الفرنسيين على شواطىء بورت برنس وجدوا اهلها على طريقتهم و عبر تذاكر غضبهم الخاصة قد اعنلوا الثورة ضد ملاك العبيد و ملاك المزارع، و لما كانت سكرة و فكرة الجنود الفرنسيين لم تنتهى بعد فانهم قرروا الانضمام الى ثورة المستعبدين مع قبس من النور الفرنسى و رفعت شعارات الثورة الفرنسية و اعلنوا دولة الإخاء و انتشرت فلسفة التنوير فى الجزر حتى قبل حركة الحقوق المدنية الحديثة فى شمال امريكا بوقت طويل و كان دومينقو تاوسنت الذى ترجع اصوله الى ساحل داهومى و الذى تمكن ان يكون فى درجة ما قرب الاعيان بحكم قدراته و رأفة من تاجر رقيق يعيش فى سان دومينقو و لم يشارك تاوسنت فى الثورة فى بداياتها وبل حاول التوسط بين المتمردين و الملاك البيض و حينما كاد قادة الثورة ان يساوموا على مبادئهم قرر دخول المعركة و خاض غمار الحرب و عند 1795 اصبح دومينقو تاوسنت الذى خاض الحرب مؤيدا لمبادىء الثورة الفرنسية و بعد نصره اصبح حاكما للجزر و حظى بدعم اغلبية السود و البيض على حد سواء بعد ان اعطى للسود حقوقهم و حررهم و دافع عن حق البيض فى الوجود و حقق الاستقرار الاقتصادى فى سان دومينقو وما جاورها، و امرالمستعبدين السابقين بضرورة العودة الى العمل و يبدو انهم بعد نجاح ثورتهم قد قرروا اخذ اجازة مفتوحة و هزم محاولات البريطانين والفرنسيين بالعودة الى الجزر واملأ دستورا جديدا و نصب نفسه حاكما مدى الحياة بسلطات مطلقة كما يقول خصومه فى روايات عديدة و لاحقا اجبرعن طريق الفرنسيين بتوقيع اتفاقية يتنازل بموجبها عن الحكم بشرط عدم العودة الى نظام العبودية و رجع الى مزرعته ولكن بعد ثلاثة اسابيع ارسل الفرنسيين قوة لاعتقاله!!! بحجة انه يخطط للعودة الى الحكم و القى القبض عليه و اسرته و ارسل فى سفينة حربية الى فرنسا و حقق معه مرارا فى السجن بدعوى التخطيط للتمرد و بعد وقت قصير مات القائد فرانسيسكو دومينقو تاوسنت فى ابريل 1803 بعد ان قال للناس جميعا " متى استعبدتم الناس" و هاهو دانى قلوفر يعمل لاعادة دومينقو تاوسنت للحياة من جديد وكل ما ضاع يرتجى .... و الخير خير و إن طال الزمان به و الشر شر ... و من الذاكرة و صداها البعيد يغنى عبدالوهاب البياتى " مدن بلا شمس تنام ... ناديت باسمك فى شوارعها .... فجاوبنى الظلام.... و سألت عنك الريح وهى تئن فى قلب السكون .... و فى نوافذ الفجر البعيد .... وفى بطاقات البريد ..... فقراء يا قمرى نموت .... و قطارنا ابدا يفوت ... و.... وليس بموقد الفقراء نار".