لا شك أن توقيع اتفاقية السلام الشامل بنيفاشا قد شكل نقطة تحول هامة في الحياة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية في السودان عامة و المناطق المتاثرة بالحرب في جنوب السودان و المناطق الثلاثة خاصة , و قد كان هذا الاتفاق لسكان هذه المناطق و جماهير الشعب التي انتظرت التغيير طويلا بمثابة الانطلاقة الحقيقية للمشروع الوطني لإعادة بناء الدولة السودانية الحديثة و إيذانا ببزوغ فجر السودان الجديد , سودان الحرية والعدالة و المساواة , السودان الذي يتمتع فيه الكل بكافة حقوق المواطنة الكاملة .
و لكن جاء الرحيل المفاجئ للدكتور جون قرنق ليشكل ضربة لمشروع السودان الجديد و هزة قوية للحركة الشعبية, التي استطاعت أن تتماسك و تحافظ على وحدتها رغم قوة الفجيعة .
و في جنوب السودان استطاعت الحركة أن تستكمل بناء مؤسسات حكومة الجنوب و حكومات الولايات العشر و أن تبدأ مشاريع التنمية و تأهيل البنى التحتية و بناء الإقتصاد , و رغم ذلك و دون إنتقاص من حجم الإنجاز الذي تحقق في الفترة الماضية , إلا انه لم يكن بالحجم المتوقع و المفترض و ذلك اذا قورن بحجم الأموال التي انفقت خلال هذه الفترة , و هذا قد يكون مرده الى عدم الشفافية التي اتسمت بها التعاملات المالية و إستشراء الفساد و المحسوبية في المؤسسات الحكومية في الجنوب و هي ممارسات مثلت ولا ذالت تمثل تحدي كبير لحكومة الجنوب و تقدح في اهلية الحركة الشعبية كقائدة لثورة التغيير و صدقية شعاراتها الداعية لإعادة بناء السودان على أسس جديدة , لان هذه الممارسات متأصلة في ثقافة السودان القديم التي تدعو لتغييرها . فالجنوب اليوم يكاد يكون نموذجا مصغرا للسودان القديم , فقد صار الولاء السياسي و الإنتماء القبلي و العشائري مقدما على الولاء و الإنتماء للوطن , فأستغل البعض هذا الوضع لتسلق و تأمين مواقع سياسية و تنفيذية لا يمكنهم الوصول اليها دون سند و من ثم القيام بتوظيف الأقارب و اصحاب الولاءات دون الاخذ في الاعتبار الكفاءات و الخبرات العملية التي تؤهلهم لشغل تلك الوظائف , بل يمكن القول أن الحركة تقوم بعملية تمكين سياسي و اقتصادي في الجنوب مشابهة لتلك التي قامت بها الانقاذ في بدايات عهدها , كما أدى عدم الشفافية في التعاملات المالية إلى تركيز الثروة في ايدي فئات معينة و معدودة , فظهرت طبقة جديدة من البرجوازية الإنتهازية و الرأسمالية الطفيلية التي تكاثرت بصورة غير مسبوقة حتى صار من المألوف في جنوب السودان أن يتحول المرء ما بين ليلة و ضحاها من فقير معدم الى ثري يملك المال و الأعمال . كل هذا لا ينفي الجهود المقدرة التي يقودها السيد رئيس حكومة الجنوب و نائبه عبر إنشاء مفوضية الفساد الخاصة بجنوب السودان و لكن الفساد ماذال ينخر في جسد المؤسسات الحكومية و لاذالت المحسوبية متفشية بصورة كبيرة ,
لذا فالامر يحتاج من السيد الرئيس المزيد من الدعم للمفوضية و التشدد في مواجهة المفسدين من السياسيين و التنفيذيين بتفعيل القوانين و الأحكام الرادعة و تشجيع ثقافة الشفافية في المعاملات الحكومية على كل المستويات في جنوب السودان , فلا يعقل ان تقوم الحركة الشعبية بنقد الآخرين في قضايا هي عاجزة عن حسمها .
و على الصعيد الأمني استطاعت الحركة أن تحقق استقرارا نوعيا في جنوب السودان وبدأت في بناء القوى الأمنية الداخلية و الجيش , و لكن نجد ان هناك اخفاقات و بطء في حسم و مواجهة بعض الصراعات القبلية و العشائرية التي تندلع هنا و هناك بين الفينة و الاخرى , و يمكن استثناء ولايتي واراب و جونقلي و التي تمكنت حكومتيهما من حسم الإنفلاتات و وقف العبث الامني الذي كان يسود هاتين الولايتين و تبقت صراعات الاستوائية و البحيرات و أعالي النيل التي ظهرت مؤخرا و هي صراعات تطرح في جوهرها عدة تساؤلات عن فعالية المشروع الاجتماعي للحركة الشعبية! و قدرة حكومة الجنوب و حكومات الولايات على حسم و مخاطبة اسباب هذه الصراعات! وفي اعتقادي ان النخبة الجنوبية لاذالت عاجزة عن تطوير مفهوم مشترك للقومية الجنوبية , بل أن مسألة القبلية من المسائل التي لا تناقش بالصوت العالي وسط السياسيين و النخبة المثقفة و يتحشاها البعض خشية من ان تطالهم الإتهامات بالرجعية , و هذا في اعتقادي لا يقدم حلا و لا يساعد في ايجاد الحلول الناجعة لحل هذا الاشكال , فعلى جميع الفعاليات السياسية و الاجتماعية الاطلاع بدورها و العمل على بلورة أسس فعالة و بناءة لعملية البناء الاجتماعي و تفعيل آليات التعايش السلمي بين المجتمعات المحلية المختلفة و تشجيع المصالحات , بالاضافة الى ذلك على الحركة الشعبية و حكومة الجنوب حسم و محاسبة مثيري الفتن القبلية و من أسماهم الأمين العام للحركة ب"المثقفين ضيقي الأفق" سوى كانوا داخل الحركة أو خارجها بدلا من الارتكان الى نظرية المؤامرة و إضاعة الوقت في إطلاق الإتهامات كما فعلت في احداث اعالي النيل الاخيرة , فالمجتمعات المحتربة دائما تنتظر تدخل السلطات لحسم الامور و وقف المواجهات , ولكن اذا تباطأت السلطات تقوم الجماعات المتضررة بالثأر , لذا كل ما جاء التحرك الحكومي اسرع , كل ما تم تدارك الامور و إخماد النيران في مهدها , فبطء التحرك الرسمي قد يؤدي الى انفجار الاوضاع و صعوبة السيطرة عليها , والمستغرب أن قيادة حكومة الجنوب و الحركة الشعبية سارعت الى إقالة معتمد جوبا السابق بعد ان أمر بحبس بعض الفتيات بحجة ارتدائهن ازياء فاضحة , بينما تقف عاجزة عن محاسبة المسؤلين الذين يقصرون في حماية أرواح المواطنين و أمنهم . نعم لا جدال ان الحركة الشعبية لا ذالت تملك الهيمنة السياسية و السند الشعبي و الجماهيري و تفويض شعب جنوب السودان لقيادته نحو بر الأمان و لكن الأمور قد تتداعى كلما ذادت خيبات الجماهير , لذا على الفريق سلفاكير أن يرتدي قبعته الثورية و يعود القائد سلفاكير ميارديت الرجل الثوري الذي عرفته الجماهير و كذلك كل أركان حربه في الحركة و حكومة الجنوب حتى لا يجدوا انفسهم يوما قادة بلا سند جماهيري بل و بلا شعب , فالحركة مطالبة في هذا الوقت بالذات بقيادة عملية الوفاق السياسي بين كافة المكونات السياسية الجنوبية و خاصة أننا على أعتاب عامين على استفتاء تقرير المصير و إفساح المجال لمعارضة بناءة و قوية تسهم في تعزيز الممارسة الديمقراطية في جنوب السودان , كما أن على هذه الاحزاب السياسية التخلي عن حيادها الإنتهازي و الكف عن التودد للحركة الشعبية و القيام بدورها الطبيعي كمعارضة وطنية في نقد سياسات الحركة الشعبية وحكومة الجنوب , و هذا لن يتأتى الا بقيام ثورات تصحيحية داخل تلك الاحزاب لتنحية قياداتها الديناصورية الهرمة التي لا هم لها إلا اللهث خلف السلطة و الوجاهة السياسية و استبدالهم بقيادات شابة تضع قضايا الوطن والجماهير في راس قائمة أولوياتها .
This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.