logo

يكتفي الناس هنا في المدينة بالقول : اذا زرت ملكال في فصل الخريف سترى حجم المعانأة حينها ستكتب بصورة جيدة ,لكن بختك فزيارتك هذه تصادف فصل الجفاف , هكذا اٌستقبلتُ في زيارتي الأولى لحاضرة أعالي البلاد التي شهدت أحداث عنفٍ متوالية منذ توقيع إتفاقية السلام الشامل عبر السبعة أعوامٍ الماضية, لكن بختي أنا الذي أزور المدينة بعد هذا الهدوء الواضح في أطراف المدينة وضفتيها التي تفصل بينهما النيل الأبيض فيما يرقدُ السوباط وديعا جنوبها ، وللسوباط قصتي التي سأرويها لاحقاً حتى لا أشغل أحبتي القراء بقصتي التي تبدو (مسيخة) وربما ستعجبكم رغم مساختها هذه ، المهم ,العام الماضي كنتُ قد ختمت مشاهداتي في الرنك بوعد زيارة هذه العاصمة الواقعة بعيداً، حتى في خارطة البلاد الجغرافية ليس لأن (تويل)* السمك أخذني كثيراً ولكن لأن  (تويلاً ) من نوع آخر غمرني وشدني للسفر إلى هناك – الرحلة بدأت من الرنك أقصى الولاية وأقصى البلد بأكمله – الطريق المؤدي إلى (ملكان ) وهذا بحسب النطق الأكثر شيوعاَ, وهم يقصدون ملكال بنطقهم هذا ، الرحلة بلا شك ستبقى في ذاكرتي إلى مدى بعيد – مررنا بخيران كثيرة بداية من خور كرو و أدار ولول حيث بلغنا المدينة من قريب ولم تكتمل الصورة بالنسبة ليَ لأنه في الوقت الذي كنا نعبر القرى والمحطات على الطريق اثار انتباهي الأطفال الصغار الذين يفترشون جميع المحطات وينادون مروجين لبضائعهم المحلية :شيل لالوب والنبق ياه ، كنا نشتري منهم ليس طمعاً في أكل اللالوب والنبق كي يتسنى لنا الحديث معهم قليلاً – لماذا هولاء الأطفال لا يذهبون إلى المدارس في الوقت الذي يتراوح فيه أعمارهم بين 8 و11 العمر المناسب لدخول المدارس ، هذه مشكلة أخرى تواجه الريف – هل فشلت رؤية نقل المدن إلى الأرياف ؟ لا أدري وهل هناك مَنْ يدري السبب , لكن الحقُ يُقال الرؤية لم تجد مكاناً للنجاح حتى الآن وهذا الأمر يحتاج إلى إعادة التفكير في هذا المشروع الطموح لأن الوقت يداهمنا فهل من يستجيب لصوت المساكين يا رفاق – المهم نحن عبرنا خور ادار فراينا من قريب مقاطعة أكوكا ومضينا صوب خور لول قبيل بلوغنا ملكال حاضرة ولاية أعالي النيل – اما صديقي العزيز بوي جون الذي اُناديه بإسمه الآخر غير المعروف لدى الكثيرين (جاك) بدأ يريني مناظر بلاد الشلك بدءً من أبانيم وصولاً إلى ماكال شلك كما شاهدتُ أنقاض القطاطي التي اُحرقت إثر الإشتباكات القبلية الماضية التي شهدتها هذه المناطق ، و قد وضح لي وأنا أقترب من المدينة ان تلك القطاطي تشهد تجديدا واضحاً وقد عاد سكان تلك القرى إلى قراهم ، فالسلام يطلبه الجميع ، وأنا على الدوام لا أحب وصول أي مدينة أزورها لأول مرة ليلاً و قد صادف وصولي هذه المرة السابعة الا ربع تماماً حيث بدأت الرؤية تضمحل بطيئاً كأن الشمس تريد الرقاد خلف أشجار الدليب عند (ديتانق ) في الضفة الغربية حيث الغروب – من يميني اُشاهد مطار ملكال ويساري رئاسة الأمم المتحدة من جهات شمال شرق المدينة ( القطاع الشمالي) الطريق من هنا واضحٌ لأننا سنمر قبالة جامعة أعالي النيل ,و فجاة أنعطف بنا سائق سيارة لاند كروزر بعيداً عن طريق الملكية لأن صاحب السيارة كان لا يريد أن يدخل المدينة عبر الميناء البري ,لكنه كان تحت المراقبة من قبل مسؤولي الأمن في الميناء حيث تم إعادتنا من الملكية حتى الميناء البري المتواضع .

قضيتُ أربعة أيام في ملكال ولا أعرف دائماً ان أيامي لا تقل عن ثلاثة أيام حيث كانت أيامي في زيارتي الأخيرة إلى العاصمة الكينية (نيروبي ) حيث وقع السلام بين الحركة الشعبية لتحرير السودان الحزب الحاكم في البلاد والمؤتمر الوطني الحاكم في السودان ، لا أعرف سر هذه الأيام الخوالي .

 

(1 ) في اليوم الأول قررنا التجوال لأكتشاف المدينة منذ الصباح ؛ولسماع صياح ديوك المدينة في البدء توجهنا إلى وزارة الصحة عفواً إلى مستشفى الأطفال بدت لي أولاً نظافة المستشفى المنتظمة وعنابرها الضيقة النظيفة ،الأطفال في أعالي النيل أفضل حالاً لأنهم يتلقون خدمات صحية مرتبة ومقبولة على نفقات الحكومة الولائية عبر وزارة صحتها ، نعم مبنى المستشفى متهالكٌ وفي حاجة إلى التبديل والبناء من جديد وهذا ما حدث بالفعل – داخل ذات السور أرتفعت بناية جديدة من طابقين قيل هو المبنى الجديد لمستشفى الأطفال في مراحل تشطيبها الأخير حتى ان الأمهات تبدو على أعينهن شوق إفتتاح هذا المبنى الجديد والذي يتوقع إفتتاحها خلال أقل من شهرين من موعد زيارتي هذه ، ويبدو لي ان حاضرة أعالي النيل تتمتع بخدمات صحية جيدة عن غيرها من الولايات الأخرى بالبلاد وهذا ليس مجرد حديث بل هو الحقيقة بعينها ؛ حيث يمكنك ان تختار بين خيارا ت عديدة أين تريد ان تتلقى الخدمة الصحية في المستشفى الحكومي والأكثر إكتظاظاً بالمرضى من جونقلي وولاية الوحدة وأعالي النيل نفسها أما انك تحتاج إلى خدمة صحية من باب (المزايدة ) بانك تبحث عن أفضل الخدمات الصحية تيسراً فتجد أكثر من ( 6 ) مستوصفات متخصصة شاملة الخدمات الصحية من الأخصائيين، ورغم هذا فالناس يحتجون كثيراً وهذا الإحتجاج مشروعٌ كممارسة ديمقراطية بيد ان بعض المواطنين لا يزالون يبحثون عن الرعاية الصحية والعلاج في دول أجنبية أخرى كالخرطوم ونيروبي ودول أخرى في الوقت الذي يفضل الكثير من المواطنين الإستشفاء في دولة السودان الشقيقة وكلمة ( شقيقة ) هذه قد تثير إشمئزاز الكثيرين من الوطنيين المتشدديين في بلادي حيث سيرون ان هذه الدولة سببت لنا العناء كثيراً قبل وبعد الإستقلال لكم الحق فيما تعتقدون ولكن الدبلوماسية حتى في الكتابة تقتضي قبول كلمة (شقيقة ) الآن أو في وقت اخر عندما تمضي العلاقة نحو طريقة مقبولة بين البلدين في تبادل دبلوماسي محترم في كل المجالات – آه عفواً أقحمتكم في السياسة قليلاً أحبائي (القراء) لكم العتبى وأنا (طلع ) sorry .

في ذات اليوم منتصف النهار زرنا إذاعة جنوب السودان في ملكال ، وهذه الإذاعة تتمتع بخصوصية برامجية رائعة على مستوى إستخدام (7 ) لغات محلية ( نوير – شلك – أنيواك – مورلي – دينكا – كوما – والبرون ) ويقول مهندس الصوت شار جيمس ان هذه اللغات السبعة يتم النطق بها على الهواء عبر أثير اذاعة (ملكال) في فاتحة البرامج بالبرنامج الأكثر شعبية " صباح الخير يا ملكال " الشيء الملاحظ هو ان هذه الإذاعة رغم تميزها في إستخدام هكذا لغات تفتقر إلى ساعات البث حيث تبدأ البث بمقدار 8 ساعات فقط – نشرة كاملة باللغات المحلية بالإضافة إلى العربية والإنجليزية – هذا من جانب ومن جانب أخر تعمل الإذاعة بإستديو واحد للبث المباشر والتسجيل وقد تم تجهيز الإستديو بطريقة فنية محكمة تمنع الصدى والضجيج الخارجي – إستديو تمام ، بعد هذه الجولة توجهنا إلى مكتب حاكم أعالي النيل اللواء سايمون كون وفي مكتبه يُساء التعامل مع الصحفيين ، قابلتُ المكتب الصحفي وأبدو أكثر تفهماً بمهمتي الصحفية العاجلة وحالوا إدخالي إلى مكتب الحاكم – طلب مني مدير مكتبه التنفيذي ملء إستمارة مقابلة سعادة الحاكم (كون) وكأنني أريد مقابلته لتوقيع على طلب معين لم أقم بهذه العملية حيث أكتفيتُ بكتابة نقاط الحوار مختصراً وطلب مني بالمجيء في اليوم الثاني ، وقد داومتُ على الحضور, فهذه مهنة مهينة تبحث عن المتاعب،في اليومين كنتُ أجد الرجل مشغولاً بالتصديقات المالية ولا يعتريه أمري بشيء ، إسمك منو ، تاني يا سعادتك قلتُ : أبراهام مليك ، سعادة الحاكم داير يطلع الفطور ؛ إنتظرتُ كثيراً في المكتب الصحفي وعندما أدركتُ أن هذا السعادة سيضيع لي بقية واجباتي مضيت , ففي نهاية المطاف لن يتسنى لي مقابلته ، وفي تحليلي توصلت إلى ان في مكتب حاكم أعالي النيل ممنوع الإقتراب للصحفيين .!!

 

(2 ) أنا طبعاً بعد ان مليت الإنتظار في مكتب حاكم ولاية أعالي النيل ، كان لأبد لي وفقاً لخطتي لتغطية أنشطة الحياة في المدينة ان أتوجه إلى رئاسة شرطة ولاية أعالي النيل لكي أعرف هموم شرطة الولاية والجريمة والأمن أريد معرفة كافة جوانب الولاية ، اللواء جيمس بيل رجلٌ يتمتع بأريحية منقطعة النظير مع الصحفيين وجدته يتناول وجبة الإفطار إنتظرته قليلاً ثم أمر بمقابلته ، بدأ يستمع إليَ بهدوء وتركيز ، ثم قال " الأوضاع الأمنية تحت السيطرة والشخص دائماً لا يحبز ان تسوء الأوضاع لكي يتحدث و كما ترون لا شيء يخيفنا في هذا الجانب " وافق الرجل على إجراء الحوار معه لصالح (المصير) الا انه عاد وإشترط مقابلة الحاكم أولاً , لم أقابله وخسرت موعد إجراء اللقاء معه ، فالحاكم ضيع كل فرصة سنحت ليَ – المدينة هادئة نوعاً ما ورئاسة الشرطة تظهر جيداً ، الطرق تثير الأتربة في كل مكان العمل تمضي بخطوة ثابتة لأن بيتر أيول وشركته كانو والشركة الصينية يسابقون الخريف كما أشار أيول مدير شركة كانو للطرق – فرع ملكال والذي نشرت الصحيفة حديثه مطلع الشهر الجاري ,مقاطعة ملكال كتبت على لوحاتها الرسمية (ماكال ) وهذا يعني ان سكان ملكال الأصليين حسموا الحديث عن تبعية المقاطعة وهذا أفضل من النزاع المسلح حول التبعية التاريخية لمقاطعة ملكال – عفواً أقصد (ماكال ) كما كتب على بوابة رئاسة المحافظة ولن أزيد .

 

( 3 ) المدينة تظهر بشكل رائع خاصة عندما تعبر إلى الضفة الأخرى للنيل فتجد نفسك تشاهد في مكان مرتفع ,هكذا يبدو المشهد كما شاهدناه في رحلة العبور إلى (ليلو) مسقط رأس القائد الفذ باقان أموم, وهذه الرحلة كتب عنها الزميل اللبق أنطوني جوزيف وهذا الصحفي الشاب في صحيفة (المصير)من مقاطعة فنيكانق سيبلغ عامه الأول في فبراير شباط المقبل ,وسيكون قد ختم تجربته وعامه الاول بمهنية عالية غطى من خلاله الملف السياسي والأحزاب بجدارة ،وكما ذكر في مشاهداته بإنه عرف حسن خلقنا أقول له الحق الآن انك تتمتع بقوة ملاحظة صحافية عالية ،وهذا يستحقُ التقدير والإحترام ،و لن أنسى لك حسن صحبتك ايضاً وادعوك الآن لزيارة مسقط راسي مقاطعة التويج لأنك مدين لي بعد ان مضينا سوياً بعيداً حتى فنيكانق حيث أنت من هناك هذا في حق زميلي أنطوني جوزيف أكان ، لا أريد ان أروي عن عبورنا إلى مسقط رأس أموم كثيراً سأعتمد ما ذكره زميلي سابقاً نشر في (المصير)الذي أريد روايته هو عن ملكال ؛من جديد البنى التحتية لأكثر الأحياء سورها من الزنك وبعض القش والقطاطي فالأخير معروفٌ منذ القدم كمساكن تحمي المواطنين من غزارة المطر في مثل هذه الأراضي الطينية جيدة الإنتاج ولكن هنالك بنايات أخرى شامخة تشير إلى ان السلام حل بهدوء أخيراً, وستنجلي ليالي ملكال هنيئاً بلا تعب ولا صوت الرصاص لذلك لاحظتُ بالتتبع العمارة تمضي بصورة جيدة تخبر ان وقت السلام حضر بقوة لا محال – الناس يشيدون مساكن حديثة من هنا وهناك حتى ان ملكال أتسعت كثيراً حتى الجنوب حيث حي الأكاديمية الذي بدأ لي وكأنه يشابه حي الفيحاء الكائن بالحاج يوسف – والذي شهد تطوراً كبيراً حتى أصبح قبلة الأنظار في الحاج يوسف ويبدوان حي الأكاديمية سيمضي في هذا المنوال في توطيد التنمية العمرانية من قبل الأفراد وكذلك لا تفوتني الأحياء الأخرى التي زرتها في المدينة :أصوصا – مديرية –ملكية- الري المصري- ثورة جلابة- ثورة ملكية –بم -دينقر شوفو- حي الشاطي-حي التنمية- حي التلفزيون – حي المناضلين الذي يشق طريقه في النماء بدوره أيضاً ، وهذا الحي خاصة بكل المناضلين المعروفين ولا أريد ذكر أسماءهم في هذه العجالة ، هذه الأحياء زرناها مشياً على الأقدام رغم كثرة (الأتوزات) وهذا كان طلباً مني حتى أشاهد عن قرب كيف هي ملكال وأحيائها الطرفية ،وأستمتعتُ حقيقة بهذا التجوال داخل الأحياء فكنتُ أشاهد قطية هنا و بناية متينة ثابتة هناك, وهذا يعني أن العافية درجات كما يُقال – وفي نهاية المطاف هذه العافية ستشمل كل الناس طالما ان السلام يتحرك ساكناً وسط المدينة وفي أطراف الولاية, فالقوات الباسلة تسهر من أجل أمن و راحة المواطنين في أنحاء البلاد – كل هذا التجوال بمعية صديقنا طيب الأخلاق ديفيد سفرينو الطالب بكلية الصحة بجامعة أعالي النيل،و هو شابٌ قصير القامة يتمتع بهدوء مختلف عن الكثيرين، ومعرفتي به ليست بالقصيرة فهي منذ أيامنا الجميلة كما أراها في دولة السودان قبل ان تصبح جمهورية (الأم) ,وديفيد هذا امضى أكثر من ثلاثة سنوات في ملكال ونادراً ما يزور مسقط راسه في غرب بحر الغزال أدركتُ كم أحب الرجل مدينة ملكال وشهد كل أحداثها المأساوية وأصبح من الذين يستعان بهم كدليل سياحي ملماً بكل أزقة المدينة وأركانها – هو يستحق لقب نموذج (الوحدة الوطنية) بلا تردد كان يشرح لي كل المعالم وكنا في ضيافته وتابع حالتي الصحية عندما أصبتُ بوعكة خفيفة أشبه بالملاريا اللعينة المنتشرة في بلادنا المترامية الأطراف لذلك أقول لـ(أوكو) وهذا أسمه المعروف لدي أسرته شكراً جزيلاً يا صديقي ولا أعرف كيف سأرد جميلك ولكن بلادنا الجديدة هذه توحد جيلنا هذا من أجل مستقبل أكثر قوى وثباتاً وهذا بالإمكان بيد أن التفاول بالغد ديدن هذا الجيل الطموح ..!

أبراهام مليك This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.

كاتب صحفي بصحيفة (9يوليو ا)لإسبوعية -جوبا

نشرتٌ هذا التقرير العام الماضي عقب زيارتي الأولى إلى مدينة ملكال