logo

السوداننحن حقاً نعيش مرحلة تاريخية مختلفة تماماً عن سابقاتها فيما يتعلق بتطورات قضية جنوب السودان من ناحية تراكم الوعي الجمعي للجنوبيين وقدرته علي توجيهم و إرشادهم لكيما يسيروا علي هداه وهم يستشرفون و يلتمسون الطريق نحو مستقبل أفضل ، وهو ما أدي بدوره الي تباين أدوات المحاججة و الدفع عندهم و أنتج هو الأخر تنوعاً في إسلوب إدارة الصراع مع المركز فيما إذا قورن الماضي بالحاضر.

فهذه الأدوات لم تعد نمطية تقليدية كما كان في غابر الايام ، و إنما تعداها الي إستغلال القدرات العقلية للتجمعات وشحذ الأمكانيات الذاتية وإستحداثها او إكتسابها من المحيط، كما أن الاسلوب لم يعد هو ذاك الإسلوب العتيق الذي كان ينزع الي الإنطواء والإنكفاء علي الذات و يغلب عليه طابع شكوي العاجز المذلول المغلول اليد ، ذاك الذي يلعن باستمرار حظه العاثر الذي أوقعه في هذه الجغرافيا، الي درجة إنه في أحايين كثيرة يكاد اليأس إن يملوه من شدة إرتفاع صوت الباطل و سيادة النفاق علي كل شئ.

مرحلتنا الجديدة هذه كشفت عن نفسها بجلاء صارخ يوم الاثنين 15 نوفمبر الجاري عندما إنطلقت عملية تسجيل و حصر الناخبين الذين يحق لهم التصويت في الإستفتاء المنتظر في التاسع ينايرعام 2011، وكأنك لتري بأم عينك من خلف المشهد الأجيال القائدة لهذه المرحلة تخرج هادرة لتقول لا في وجه من قالوا نعم وأدمنوا لعقود طويلة لعبة الخنوع أمام الباب العالي!

ولما كان التسجيل هو أولي الخطوات نحو ممارسة الإستحقاق التاريخي الذي هو الإستفتاء، علاوة علي كونه- اي التسجيل- الخطوة العملية الأولي للمفوضية منذ إنشائها قبل ثلاثة أشهر ونيف، فلا مشاحة إنها تعني أيضاً إننا بالفعل بدأنا العدو في مضمار الإستفتاء الطويل والشاق ، وهو مضمار لا يقبل باي حال من الأحوال التعثر او التأخر.

ومثلما إنه لا جدال في إن سجل الناخبين الذي سيسفر عنه العملية الجارية حالياً بعد تدقيقه، سيكون هو الفيصل الأخير والحكم الوحيد المحدد لهوية أولئك الذين سيقررون مصير الجنوب من أولئك الذين سيتابعون الحدث علي شاشات التلفزة، فإن الحرص علي سلامة هذا السجل و صيانته من الوقوع في أيدي المدنسين واجب وطني لا يقل درجة من الواجبات الأخري، وهو ما بدا لي إن الجنوبيين لاسيما القاطنين في الشمال إستوعبوه جيداً عندما دعاهم الداعي الي التسجيل يوم الإثنين ولم يلبوا الدعوة!!

فالتسجيل علي الرغم من إنه حسب الجدول سيستمر حتي اول ديسمبر، فإن قرأءات اليوم الأول لتعفيك من متابعة الخلاصة الأخيرة، بل تجعلك تجزم من الوهلة الأولي بالحقيقة البائنة في أمارات الوجوه الشاحبة التي منذ إنطلاق الصافرة، تزاحمت وتظاهرت في نشوة داخل مراكز التسجيل في مدن الجنوب، و كأنها تستبق يوم الحسم الكبير، او إنك لتصل الي نفس النتيجة من خلال النظر الي تلك الوجوه الغاضبة التي فضلت الإحجام و إختارت الصمت في ولايات الشمال سداً لثغرة يريد إستغلالها اولئك الذين أدمنوا تزوير ارادات الجنوبيين!!

إذاً الإقبال الكبير الرائع من المواطنين في الجنوب والذي وصل الي درجة التدافع في بعض المراكز لم يكن هو باعث الدهشة بالنسبة لمراقبي الأوضاع ، فقد كان ذلك متوقعاً بحكم المعلوم من الأشياء بالضرورة ، لذلك خلا من عنصر الدهشة والإستغراب، لكن المفاجاة كانت فيما قابله من الطرف الأخر من تدني مريع في مستوي إقبال الجنوبيين في الشمال علي العملية ، وهو تدني وصل الي درجة الصفر في بعض المراكز لاسيما في الخرطوم العاصمة وهو درس بليغ إن كانوا يعتبرون!!

لا غلو إن حالة الإحجام هذه مستجدة تماماً علي المشهد وستلقي بظلالها عليه بما يجعلها ثيرموميتر قياس درجة سخونة او برودة الأحداث القادمة ، إنها تحمل دلالات جمة و رسالة ذات مغذي من الشعب الذي تراكم وعيه عبر سنين طويلة ذاق خلال كل صنوف المعاناة ، لذلك جاءت مباغتة الي درجة الارباك و الحيرة ، خاصة لأولئك السحرة الذين وضعوا أنفسهم في مقام الخالق القدير و ظنوا إن بإمكانهم صنع معجزة ما في اللحظة الأخيرة الحاسمة.

و أول هذه الدلالات هي إن درجة الوعي بأهمية الإستفتاء عند الجنوبي البسيط، ليس كما ظنه البائسون الذين ضلوا الطريق الي منعطفات أخري لا علاقة لها بمنطق الأشياء و الواقع عندما هموا بقراءة مشاعر الجنوبي حيال جدلية الوحدة أو الإنفصال.

هذا الوعي هو علي حال من الأحوال وعي توصل إليه الجنوبي من خلال متابعته لممحاكات الشريكين في الفترة الأخيرة حول إنجاز العملية و المسرحيات الهزيلة سيئة الإخراج التي انتجها المؤتمر وكانت أخرها ما سمي بزواج الوحدة وهو زواج مضحك الي درجة البكاء،وكذلك محاولات تخوين الداعين الي غير خيار الوحدة.

كما إنه ، أي الإندفاع نحو التسجيل من المواطنين في الجنوب و الإحجام عليه من الجنوبيين في الشمال يشير الي إن المواطن الجنوبي العادي فهم الرسالة تماماً من عنوانها ، ولا يحتاج الي وصاية من أحد فيما يتعلق بممارسه حقه الذي كفله إتفاقية السلام الشامل في تقرير مصيره و إتخاذ الخيار الانسب له ، وهو أمر فاجأ ربما حتي قيادة الحكومة في الجنوب نفسها التي طالما وردت عنها في الأونة الأخيرة ما دل علي تخوفها من مدي إستيعاب الجنوبيين خاصة اولئك المقيمن في الشمال لمعني الإستفتاء وحساسيته.

كيمي جيمس أواي