logo

كان هذا المؤتمر ساحة حقيقية غير مزيفة لقياس الأحجام السياسية للأحزاب و كذلك مدي فاعليتها و تأثيرها علي مستوي الفعل الجماهيري و علي توجيه الراي العام و مجريات الأحداث في ساحة الجنوبية التي وفقاً لمعطيات الواقع ستكون حبلي بالمفاجات في الأيام المقبلة و نحن نخطو خطوات ثابتة نحو مستقبلنا و فرز عيشتنا من الشمال.

ولئن كانت الدعوة للمؤتمر نفسه ضربة معلم من الحركة الشعبية لتحرير السودان و من رئيسها و رئيس حكومة الجنوب شخصياً سلفاكير ميارديت من حيث الزمان و المكان ، فإن الدكتور لام أكول أجاوين رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان- التغيير الديمقراطي كان من بين اكثر من عشرين زعيماً و قيادياً ممن شاركوا في أعمال المؤتمر، النجم الاكثر لمعاناً و أضاء دهاليز المؤتمر المعتمة بافكاره و ملاحظلاته و مقترحاته حتي إنها في نهاية المطاف طغت علي التوصيات الختامية للمؤتمر.

وهذا هو جوهر هذا التحليل ، فإذا تجاوزنا القيمة العليا و الهدف النبيل وراء الدعوة للمؤتمر نفسه وهو الإجماع الجنوبي – الجنوبي و توحيد الجبهة الداخلية لمواجهة تحديات الاستفتاء ، ودلفنا مباشرة الي قراءة الحدث قراءة سياسية بحتة ، فانني أستطيع الزعم إن التغيير الديمقراطي كحزب سياسي إستطاع من خلال هذا المؤتمر إن يزرع مفاهيمه في التربة السياسية في جنوب اليوم و الغد ويرسخ أكثر لوجوده في الساحة بما يؤهله إن يكون الند السياسي للحركة الشعبية و المقابل الموضوعي الوحيد لها في المستقبل الي حين إشعار أخر.

لقد قلب الحزب الطاولة خلال المؤتمر و أعاد ترتيب الأوراق من جديد بما يوحي إن رؤاه كانت طاغية علي الحضور لسبب يجهله البسطاء و يعلمه العارفين ببواطن الأمور و مالأتها.

حلق الحزب في فضاءات و أفاق ابعد من مجرد إجراء الاستفتاء و إعلان الاستقلال الي ما بعد الاستقلال نفسه، وطرح قضايا كانت تعد وفقاً لقوانين غير مكتوبة ولا مرئية من المحرمات الحديث عنها قبل الاستفتاء في ظل تفشي عاطفة و هستيريا الإنفصال مثل الدستور ، شكل الحكم ، العلاقة مع الشمال و غيرها من النقاط التي أخرت إعلان التوصيات الختامية للؤتمر كما تابعنا، وقد نجح الحزب في ذلك إيما نجاح ، و إستطاع إقناع المؤتمرون بضرورة مناقشة هذه قضايا الأن ، وقد كان!!

لقد تمكن الدكتور لام أكول بحنكته السياسية و دهائه المعلوم عنه، إن يحول المؤتمر الي وجهة لم يحسب له الداعين اليه أي حساب عندما نادوا الأحزاب الجنوبية الي جوبا، وقبض الرجل علي مقود المؤتمر و سار بالجميع بمن فيهم الحركة الشعبية نفسها الي حيث رست التوصيات الختامية في شاطئ الحكومة الإنتقالية بعد الإنفصال!!

فالحركة الشعبية عندما دعت الي المؤتمر كانت عيونها مصوبة بدرجة أكبر نحو هدف أخر هو قطع الطريق أمام المؤتمر الوطني المراهن أبدا علي الخلافات الجنوبية – الجنوبية ، حتي لا يترك له مجال و يستصطاد في بحر التناقضات الجنوبية لاسيما القبلية منها بما يجعل الجنوب وشعبه لقمة سائغة له و يفسد إجراء الاستفتاء.

وقد أفحلت الحركة الشعبية بالفعل في تفويت الفرصة علي رجال المؤتمر الوطني و سحبت البساط من تحت أرجلهم ، خاصة عندما تنادي الي المؤتمر ألد أعدائها وأشدهم بأساً ممن لم يكن أياً منا يتوقع إن تجمعهم معها في يوم من ايام مائدة واحدة بعد القطيعة و الفجور في الخصومة السياسية كالجنرال غبريال تانغ الذي أحرق ملكال مرتين و الدكتور لام أكول الذي إكتسح حزبه الانتخابات في أعالي النيل وعوقبت قبيلته لانها صوتت له، بل ولم يظل بعض كوادره الي اليوم في غياهب السجون!!

أما التغيير الديمقراطي ففي تقديري كان له هدفان عندما لبي نداء جوبا وحققهما بامتياز من خلال إستثمار أجواء المؤتمر عن طريق القراءة المتأنية و الدقيقة للمشهد السياسي العام في السودان بشكل عام و في الجنوب علي وجه الخصوص كما سنتعرض له لاحقاً في ثنايا هذا التحليل ، فما هذان الهدفان اللذان حققهما حزب الحركة الشعبية – التغيير الديمقراطي من خلال المشاركة في مؤتمر الحوار الجنوبي- الجنوبي؟!

الهدف الأول شكلي و الثاني جوهري ، وقد أدرك التغيير الديمقراطي إن الحركة الشعبية في صراعها مع شريكها المؤتمر الوطني في أمس الحاجة الي خدماته في هذه المرحلة بالذات ، وأيقن أيضاً إن مؤتمر الحوارالجنوبي – الجنوبي نفسه لا طعم له إن لم يكن هو مشاركاً فيه ، هذا بالطبع إن لم نقل إنه ربما لم تقم له قائمة أصلاً إن هو تغيب عنه.

و بناءاً علي هذا، تحقق الهدف الشكلي ألياً بالحضور و المشاركة في المؤتمر ، لأن نقيضه كان الحزب ليظهر كمن يغرد خارج السرب الإجماع الجنوبي ، وكان ليقال إنه رافض للوحدة الجنوبية ولا ينتوي توحيد الجبهة الداخلية ، او إنه عميل للمؤتمر الوطني أو نحو ذلك مما يمكن أن يقال من دعاية التشويش السياسي المعلوم و ما يمكن ان تشهر من أسلحة القتل المعنوي .

لذا فان اللقاء المفاجئ للمراقبين و حتي لبعض الكوادر داخل الحركة الشعبية نفسها بين الدكتور لام أكول و الرئيس سلفاكير ، الي جانب المشاركة في أعمال مؤتمر الحوار الجنوبي – الجنوبي صان الحزب من هذه الإتهامات مجتمعة ، وفي نفس الوقت أربك أعداء الجنوب و المراهنين علي الخلافات الجنوبية- الجنوبية ، و حقق هدف الحركة الشعبية المتمثل في إرباك حسابات الشمال!!

الهدف الثاني و هو الجوهري كان إبقاء المؤتمر فرصة حقيقية للحوار و مناقشة قضايا الخلافات الجنوبية – الجنوبية بشكل شفاف و صريح ، و جعله فرصة للتأمل و إستشراف المستقبل ، لا تركه ينحرف الي مجرد مظاهرة سياسية شكلية يراد بها إغاظة المؤتمر الوطني بحيث يزول مفعوله بزوال المؤثر.

فقد فطن رئيس التغيير الديمقراطي كما يبدو الي حيلة بعض غلاة الحركة الشعبية الذين كانوا بالفعل يريدون إن يتنهي هذا المؤتمر الي ما إنتهي إليه مؤتمر جوبا للقوي السياسية الشمالية المعارضة الذي عقد في نفس قاعة مركز ناكورون العام الماضي ، والذي إتضح في نهاية الامر إنه كان مجرد تكتيك سياسي ذكي من الحركة الشعبية إستخدم فيها الاحزاب الشمالية المعارضة لجني ثمار سياسية لا علاقة لها بأهدافهم !!

و كسياسي محنك يجيد اللعب علي حبال التناقضات ، اي تناقضات سواء تلك التي داخل الحركة نفسها او تلك التي طرأت إثناء المداولات فقد أدرك الدكتور لام أكول إن المؤتمر الحوار الجنوبي – الجنوبي هو المكان الوحيد الذي يستطيع إن يجني لحزبه ثماراً للمستقبل و يحجز لنفسه مكان و يرسخ لوجوده أكثر إن لم نقل يفرضها فرضاً علي الحركة الشعبية ، فإهتبل الرجل الفرصة و إستغلها الي أخر مدي ممكن فعم الفائدة الجميع.

الدكتور لام يدرك إن داخل الحركة الشعبية تناقضات علي مستوي القيادة ، و بأن هنالك خطوط طول وعرض بين قياداتها من حيث قربها أو بعدها من رئيس الحزب سلفاكير، لذك فإن الناظر الي خطابه الذي القاه في المؤتمر يلمس إن الخطاب كان موجهاً بدرجة أولي الي ضمير سلفاكير الشخص أكثر منه الي سلفاكير الرئيس ، فكلمات الخطاب مثلاً بدأت لي وكأنها وضعت بدقة متناهية و بذكاء سياسي خارق ، لأنها كانت تبرز بشكل لافت للعيان الصفات المعلومة عن كيير القائد الإنسان ، كالحلم و الميل الي الحوار و طول البال و البعد عن الصدام و تأجيج الوضع و التشنج وهي صفات حميدة في القائد سلفاكيير كثيراً ما أنقذت الحركة الشعبية من الإنفجار الداخلي!!

هذين الهدفين تم تحقيقهما بإمتياز كمكسب سياسي للتغيير الديمقراطي مواز لمكسب الحركة الشعبية المتمثل في الدعوة الي المؤتمر ، الا وهو قطع الطريق امام المؤتمر الوطني حتي لا يستثمر في الخلافات الجنوبية- الجنوبية ، فالجبهة الداخلية صارت موحدة الأن ولا خوف علي تقرير المصير.

لكن التغيير الديمقراطي بدهاء قائده لا يكتفي بهذا فيذهب بعيداً و ينقب أكثر ليسجل هدف معنوي أخر ذو دلالات سياسية عميقة لكل لبيب ، فاصراره علي ضرورة مناقشة شكل الحكم بعد الإنفصال و هو الامر الذي تم تضمينه بعد لأي في مقررات المؤتمر الختامية و ظهر في شكل موافقة الجميع علي تكوين حكومة إنتقالية تشرف علي إجراء الإنتخابات بعد الإنفصال مباشرة إنما يعني الإعتراف ضمنياً بعدم شرعية الانتخابات الإخيرة التي أتت بالحاكمين الأن في الجنوب!!

نعم لست أدري إن كانت هذه النقطة تحتمل قراءة أخري ، ولكن بلا أدني شك أو نفاق تبقي القراءة الاخيرة هذه هي جوهر الفكرة وبيت القصيد من حيث قيمتها المعنوية بالنسبة لحزب ظل يردد علي روؤس الأشهاد بإنه ظلم في الانتخابات الاخيرة ، و بإن هذه الإنتخابات كانت مزورة حتي النخاع ، و بإنه لن يعترف بها بدون مقابل ، فهل فطنت الحركة الشعبية الي معني هذه النقطة ودلالتها السياسية ؟ هذه هي السياسة عندما يلعبها الكبار، فتعلم يا صاح!!

كيمي جيمس أواي

الأثنين 18 أكتوبر