logo

جاء في الأخبار إن عمنا الدكتور توبي مادوت و حزبه الإتحاد السوداني الوطني الافريقي المعروف ب "سانو" غيرا بعد لاي موقفهما المنادي بوحدة السودان الي سواه. و كلمة " سواه" هذه رغم ان مادوت نفسه لم يفسح عنها ، تعني الوجهة الجديدة للحزب ، وهي وجهة لا تحتاج الي كثير عناء كي يكتشف المرء ان الرجل تحول الي إنفصالي ، و بالتالي يكون توبي مادوت قد توصل الي ما توصل إليه قبل خمسين سنة تقريباً المرحوم الأنكل أقري جادين، الا وهو إن الجنوب جنوب و الشمال شمال و لن يلتقيان الي قيام الساعة.

و كما هو معروف تاريخياً فإن هذا الموقف أدي الي إنقسام الحزب علي نفسه الي جناحين، أحدهم كان يقوده وليم دينق و كان ينشط بالداخل و الأخر تولي أمره أقري نفسه، لكنه كان خارج الوطن هناك في منفاه الإختياري في يوغندا المجاورة.

كان جوهر الخلاف بين السياسي المخضرم وليم دينق نيال رئيس سانو مع الانكل أقري جادين يتمحور حول ما اذا كان ينبغي علي الجنوبيين المطالبة بالإنفصال التام عن الشمال و تكوين دولة مستقلة ام العيش في كنف الوحدة مع إتحاد فدرالي.

فبينما كان وليم دينق يميل الي الاطروحات الوحدوية مع الشمال ، كان اليابا جادين يري العكس تماماً ، و قد جاء الي الخرطوم و شارك في مداولات المائدة المستديرة عام 1964 ، وهناك داخل اروقة المؤتمر رفع صوته عالياً منادياً بالانفصال التام عن الشمال كحل نهائي لقضية الجنوب، ثم ما لبث إن غادر قبل ان تكتمل المداولات الي منفاه قانعاً برؤيته .

لقد كان اقري جادين سياسياً أميناً مع نفسه ، متصالحاً مع ذاته و مدركاً لحركة التاريخ و ما يخبئه الأيام لأجيال جنوب السودان ، و هذا ما أوصله الي تشخيص العلاقة بين الشمال و الجنوب مبكراً ، فهو لم يزايد أبداً بالقضية في حياته الي إن مات و لم يتزعزع عن رايه قيد أنملة.

في تلك الأيام ، كانت اثار الخراب و الدمار التي خلفتها حرب الرئيس إبراهيم عبود الشعواء علي الجنوب لا تزال بادية للعيان عندما أتي أقري جادين الي الخرطوم مشاركاً في مؤتمر المائدة المستديرة ، بل يمكن القول ان حزب سانو نفسه كان قد تأسس في المنفي في عام 1963 علي يد ساترنينو لاهورو ، وليم دينق ، جوزيف أودوهو و اخرون، كنتاج طبيعي و رد فعل مشروع لسياسة الارض المحروقة و الاسلمة و التعريب التي طبقتها بوحشية حكومة عبود في جنوب السودان .

كان حزب سانو ضمن أحزاب جنوبية أخري ، خاصة تلك التي إتخذت من يوغندا و الكنغو منصات إنطلاق لأنشطتها التحريرية ، في طليعة المناهضين لسياسات عبود الاسلاموعروبية في الجنوب ، و سياسات الشمال علي وجه العموم ، و قد رفع الحزب عدة مذكرات الي الامم المتحدة و منظمة الوحدة الأفريقية و مجلس الكنائس العالمي تنادي بإنصاف الجنوب من ظلم الشمال الذي يريد إلحاقه بمنظومة الدول العربية و الإسلامية.

يعتبر توبي مادوت اليوم الوريث الشرعي لوليم دينق نيال في زعامة سانو الذي تضعضع نفوذه في الجنوب و بالكاد يعرفه الاجيال الجديدة ، وقد سار هو علي نهج سلفه خير ما يكون الخلف ، متقفياً أثره في المناداة بالوحدة بين الشمال و الجنوب. و كان الرجل يمارس طقوس الوحدة الوطنية هذه حتي جاء يوم 20 أغسطس 2010 ، حين أعلن علي الملأ عبر راديو مرايا إن حزبه توصل بعد مشاورات داخلية الي قناعة بعدم جدوي الدعوة الي الوحدة بين الشمال و الجنوب بعد ما راه من حزب المؤتمر الوطني من تماطل في تنفيذ إستحقاق الاستفتاء و تسمية الامين العام للمفوضية و هلمجرا.

بعض الاصدقاء ممن تبادلت معهم الراي حول تحولات عمنا توبي مادوت الفكرية في قضية الوحدة و الإنفصال ، عمدوا الي إرجاع الاسباب الي ضغوط و إبتزازات تعرض له الرجل من قبل جهات خارج الحزب ، و ألمح أخرون بخبث ، الي ان الحركة الشعبية ربما أوعزت بشكل أو بأخر الي عمنا توبي كي يغير موقفه، لاسيما و إن سوق السياسة في الجنوب هذا الايام لا يروج فيه غير بضاعة الانفصال.

لكنني شخصياً لا أميل الي تاييد هذا الراي او ذاك، فما هكذا بضرب لازب يمكننا ان نقيم مسيرة سياسي له تاريخ مثل الدكتور توبي مادوت . أعتقد ان الرجل وأعضاء حزبه مارسوا نقداً ذاتياً ، و قرأءوا جيداً الواقع الحالي في جنوب السودان و قدروا الظرف التاريخي الحساس الذي يمر بها قضيتنا ، و علي ضوء هذه القراءة و النقد قرروا إن ياتوا و لو متأخرين، فهو خير من الا ياتوا البتة ، كما إنه ليس رجساً في العرف السياسي إن يبدل المرء موقفاً بعد يأس.

توبي مادوت ينتمي الي الجيل الذهبي للساسة الجنوبيين ، الجيل الذي لم يعرف القبلية الي قلبه طريقاً ، لذلك تراه في ايام هذه التي لا تشبه أيامهم ، حائراً صامتاً مقلاً في الكلام ، رجل لا يمكن ان يزايد او يذايد عليه أحد .

طبيب و إنسان فريد بالمعني الحرفي للكلمة ، يعرفه جيداً القاطنون في ضاحية الحاج بالخرطوم منذ أيام الحرب ، يداوي مرضاه بالمجان في عيادته الخاصة كضريبة وطنية من مواطن غيور علي بلده و علي شعبه، كما إنه لم يلوث نفسه أو يتورط مع جماعة نافع علي نافع، و لم يسعي قط خلال سنوات الحرب المؤلمة الي الاستؤزار، او يتهافت علي فتات المناصب التي كان يوزعها المؤتمر الوطني علي الجنوبيون في ذلك الحين كما فعل كثيرون أخرون نعرفهم و يعرفوننا و ما زالوا بيننا يمشون.

كيمي جيمس أواي

الاحد 22\8\2010