logo

اتفاقية السلام الشامل قبل التطرق لقضية تقرير المصير لشعب جنوب السودان الذي اتي به اتفاقية السلام الشامل الموقعة في الضاحية الكينية بنيفاشا في العام 2005م بين حزب المؤتمر الوطني الذي كان يمثل حكومة الخرطوم من جهة والحركة الشعبية \جيش الشعبي لتحرير السودان من جهة اخرى وانهت حرب اهلية إمتدت لاكثر من قرنين من الزمان........

ويرى معظم الجنوبيين ان تقرير المصير يعتبر أكبر مكسب في بنود الاتفاقية كما يرى المشددين بالمؤتمر الوطني بانها اكبر خطأ سياسي ارتكبه فريقهم التفاوضي لذلك بداوا يضعون العراقيل لحيلولة دون تنفيذ الاتفاقية ، لابد لي ان اتناول قضية جمهوريات اليوغسلافية وتفكك الجمهوريات المكونة للاتحاد بعد رحيل موسسها جوزيف تيتو نتيجة لصراعات العرقية كذلك موقف دول الجوار لليوغسلافيا في استقلال الجمهوريات بالإضافة الى تباين وجهات النظر و اراء القوى الدولية وفقا لمصلحة كل قوة بالمنطقة .

يتجمع داخل جمهوريات يوغسلافيا الست عدد كبير من القوميات . ويعتبر الصراع هو السمة المميزة لعلاقات هذه الجماعات خاصة الصرب والكروات , وترجع تاريخ هذا ِالصراع الى عام 395م حيث قام امبراطور الامبراطورية الرومانية بتقسيم الامبراطورية الى قسمين هما , 1-امبراطورية الرومانية الغربية التي عرف فيما بعد ب كرواتيا ,سلوفينيا ,وبوسنة والهرسك 2-امبراطورية البيزنطية التي تضم مناطق التي عرف فيما بعد ب صربيا ,مقدونيا ومونتنجر ، اما السلاف الذين سميت يوغسلافيا باسمهم فيقول المصادر التاريخية انهم هاجروا من مواطنهم الاصلية واستقروا بالمنطقة في بداية القرن السادس الميلادي ... واعتنق سكان يوغسلافيا الواقعة تحت سيادة الامبراطورية الرومانية الغربية بالديانة المسيحية الكاثوليكية و استخدموا حروف اللاتينية في التخاطب والاتصال فيما بينهم , بينما الذين سكنوا في المناطق الواقعة تحت سيادة الامبراطورية الرومانية الشرقية فقد اعتنقوا الارثوذكسية الشرقية و استخدموا الابجدية السريالية في مخاطباتهم...وكانت المذهبية الدينية وقتها هي المحرك الرئيسي للصراع بين الطرفين والذي وصل الى مرحلة الابادة الجماعية خاصة بين الصرب و الكروات , وكان جوزيف بروز تيتو زعيم الحزب الشيوعي على عداء تام مع التعصب القومي , اذ قاد التعصب الى إنشقاقات داخل الحزب الشيوعي نفسه ...و قام تيتو بتأسيس حزب بارتيسان في العام 1941م و اعلن بعد اربع سنوات عن قيام جمهوريات اليوغسلافية الاشتراكية والتي ظهرت الى الوجود في 29|نوفمبر 1945م وانتهج تيتو نظاما سياسيًا يحترم الاعراف والثقافات والاديان وكانت جمهورياته تضم ست جمهوريات هي : صربيا , الجبل الاسود ,كرواتيا ، سلوفينيا ،مقدونيا و البوسنة والهرسك , بالاضافة الى اقليمي كوسوفا وفويفودين اللذان يتمتعان بحكم ذاتي ...وعكف الزعيم تيتو منذ البداية على اقامة نظام اداري متين يساوي بين القوميات المختلفة والاقليات الدينية في الحقوق والواجبات , وفي محاولة للحد من الطموحات الصربية اتخذ تيتو تدابير وتكتيكات التالية 1- انشأ جمهورية البوسنة والهرسك التي كانت موزعة بين صربيا وكرواتيا 2-انشأ جمهورية مقدونيا و ادخل في الدستور بند جديد يعترف باللغة المقدونية كواحد من اللغات الرسمية الثلاث 3- في محاولة لتقليص مساحة صربيا ، انشأ تيتو اقليمين مستقلين هما ، كوسوفا (90%من سكان الالبان ) وفويفودين (ثلث السكان من الصرب) ...وقد نجحت سياسة تيتو في تمكينه من احكام قبضته على الدولة اليوغسلافية ساعده على ذلك النظام الفيدرالي و نظام تسيير الذاتي لنظام الاقتصادي , بالاضافة الى الوضع المتميز الذي اكتسبته يوغسلافيا على المستوى العالمي كعضو مؤسس لحركة دول عدم الانحياز ...... الا ان بداية التسعينيات من القرن العشرين شكلت نقطة تحول وإنتكاسة كبرى في تاريخ يوغسلافيا بعد وفاة جوزيف تيتو (1980م)، إذ شهدت هذه الفترة التسيب الاجتماعي وانتشار المفاسد الاقتصادية والانقسامات السياسية وانتشار العنف والارهاب ، واطلت الاثنية براسها من الجديد وبصورة اكثر وحشية .

تاريخيا سيطر الالبان لمدة خمسة قرون متتالية على اقليم كوسوفا ، ولكن بعد ضعف الامبراطورية العثمانية اتفقت الصربيا مع الشعوب السلافية في المنطقة على انشاء دولة للشعوب السلافية تحت قيادة صربيا ، وقد وافقت الدول الاوربية على ذلك في مؤتمر برلين , وبعد خروج الجيش العثماني من البانيا تمت تقسيمها بين اليونان وفرنسا وايطاليا و اعطى الجزء الشمالي من البانيا لبعض من القبائل الصربية وقد عرف هذا الجزء باسم كوسوفا , وبعد فترة وجيزة انسحبت الدول الثلاث من البانيا ، الا ان صربيا رفضت التخلى عن هذا الاقليم .... بعد تأسيس يوغسلافيا ضمت كوسوفا اليها , واثناء غذو النازية ليوغسلافيا وعد الزعيم تيتو بمنحهم الاستقلال اذا وقفوا الى جانب المقاومة اليوغسلافية وقد فعلوا ذلك ، الا انه ونتيجة للضغوط الصربية عليه ، لم يتمكن بالوفاء بوعده مع الالبان ،و تعرض الالبان لضغوط عنيفة من قبل الصرب الذين استخدموا كافة الوسائل لإبقاء الاقليم متخلفاً برغم من كثرة الثروات الطبيعية بها ، وواجه الصرب مطالب كوسوفا بوحشية شديدة ، وقمعوا بشكل دموي المظاهرات في كوسوفا وفرضوا حالة الطوارئ........ وبعد فترة اخذت التوترات تشوب معظم جمهوريات اليوغسلافية شي الذي دفعهم الى مناقشة مسألة استقلال كل جمهورية عن يوغسلافيا و طالبت عديد من دول اليوغسلافية باستقلال عن يوغسلافيا و ادى الى نشوب حروبات اهلية .

واخذ الحرب الاهلية اليوغسلافية بعداً دولياً بحيث لا يمكن فهم ما يجري في يوغسلافيا دون فهم دوافع القوى العالمية والمصالحها في المنطقة ، خاصة الدول المجاورة ليوغسلافيا ....ففيما يتعلق بإستقلال مقدونيا برزت يونان كمعارض للفكرة ذلك لان هناك مجموعات سلافية تشترك في اصل العرقي مع المقدونيين السلاف التي تغطي اجزاء كبيرة من اليونان ، مما جعل يونان تخشى ان تشكل مقدونيا خطراً على وحدة الاراضي اليونانية ... اما بلغاريا فقد بادرت بالاعتراف ولكن ليس على اساس ان المقدونيين امة مستقلة ، بل بإعتبارها جزءاً من امة البلغارية ، وكانت البانيا تتطلح الى استقلال اقليم كوسوفا باعتبارها جزءاً من البانيا تم ضمها الى صربيا في اعقاب الحرب البلغانية 1912-1913م .... كذلك اهتم النمساويون اهتماماً كبيراً بمستقبل سلوفينيا وكرواتيا باعتبار ان مواطنيهما من اصل سلوفيني ، ولان النمسا كدولة مغلقة وليس لها ساحل بحري وتعتمد بشكل كبير على الموانئ الادرياتيكية على الساحل الكرواتي مما دفعهم باعتراف بكرواتيا ، كما ان للنمسا روابط تاريخية مع كل من كرواتيا وسلوفينيا ، بالاضافة الى وجود عدد من مهاجرين الكروات في المانيا لذلك فقد اعلن مستشار الالماني هيلموت كول مساندته لاستقلال سلوفينيا وكرواتيا .....و كرد فعل على ذلك فقد اعلنت الولايات المتحدة الامريكية عن مقاطعة اقتصادية لكل يوغسلافيا و يقال ان الامم المتحدة ماطلت في ارسال قوات حفظ السلام في يوغسلافيا ،وقد كان موقف فرنسا مناقضاً لموقف المانيا وذلك بسبب علاقات القوية بين الصرب والفرنسيين ، وقد واصل الالمان جهودهم وضغوطهم على اعضاء المجموعة الاوربية ، مما دفع بالمجموعة لمناقشة موضوع الاعتراف بدول اليوغسلافية الساعية للانفصال ونتج عن ذلك النقاش اعلان السابع عشر من ديسمبر 1991م المختص بوضع شروط محددة يتعين على هذه الجموريات استيفاوها قبل الحصول على اعتراف المجموعة الاوربية باستقلالها.. وشملت الشروط على الالتزام بصيانة الديمقراطية و الحقوق الانسان وحماية الاقليات والتزام بالقوانين الحد من التسلح وعلى ان تتقدم الجمهوريات الراغبة في الانفصال و اعتراف المجموعة الاوربية بطلبها ، وتقدمت سلوفينيا ،كرواتيا ،مقدونيا و البوسنة والهرسك بطلب الاعتراف للمجموعة الاوربية والتي قررت الاعتراف بكرواتيا و سلوفينيا على ان سينظر في طلب مقدونيا والبوسنة والهرسك ....و بعد اجراء الاستفتاء على الشعب البوسني ، قد اعلن رئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش استقلال البوسنة والهرسك رسمياً في مارس 1992م وفي مطلع مايو 2006م اجرى الاستفتاء في جبل الاسود واكدت نتيجة الاستفتاء رغبة مواطني الجبل الاسود في الانفصال عن صربيا ، وقد اعترفت الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الاوربي وكثير من الدول باستقلال الجبل الاسود وقد وافقت صربيا على ذلك واعلنت نفسها وريثاً ليوغسلافيا سابقاً... هكذا تفكك الاتحاد اليوغسلافي الذي بناه جوزيف بسبب الصراعات العرقية وتباينت اراء القوى الاقليمية ودولية نسبة لاختلاف المصالح السياسية بالمنطقة اليوغسلافية .

اما تقرير مصير لشعب جنوب السودان المفترض اجراءوها باستفتاء شعبي في عام 2011م فيعتبر معضلة حقيقية في ساحة السياسية السودانية وتحدي امام القوى الديمقراطية والوطنية المهتمة بمستقبل السودان واستقرار شعبه وهو المحدد الحقيقي بان تكون او لا تكون هناك ما تسمى بالدولة السودانية وهذه المخاوف نتج من اهمال التنمية بالمنطقة الجنوبية بعد إبرام اتفاقية السلام الشامل كأحدي المؤثرات التي تسهم في جعل غيار الوحدة جاذبة عند الجنوبيين .... ، فبينما تشير معظم التقارير و التحليلات المبدئية ان اغلبية شعب جنوب السودان ستقف مع غيار الاسنفصال عند اجراء الاستفتاء , لكن ماذالت هناك فرصة لتكهنات بامكانية كل الاحتمالات والغيارات بشان تقرير المصير , هذه الاحتمالات نتجت عن الاسئلة التي تطرا نفسها بثقل في الساحة السياسية وتشابه مع التجربة اليوغسلافية وتحتاج لإجابات موضوعية فحواها كالاتي : هل ستتخذ الولايات المتحدة الامريكية موقف المشاهد دون استخدام كل امكانياتها الاقتصادية والعلاقاتها الدبلوماسية لتأثير في نتيجة الاستفتاء لاتجاه مصالحها في المنطقة في ظل الازمة الاقتصادية العالمية الطاحنة ؟ ماذا سيكون موقف دول جوار الافريقي ذات تداخل عرقي وثقافي مع جنوب السودان المشابه بتداخل العرقي في دول يوغسلافيا سابقاً ؟ ماذا سيكون دور جمهورية المصر العربية التي تستحوذ على جزء كبير من مياه النيل ولها علاقات دبلوماسية جيدة مع الولايات المتحدة الامريكية في استفتاء على تقرير مصير جنوب السودان و هل ستعمل لحيلولة دون الانفصال لحفاظ على نسبتها المائية ؟ كذلك دولة الصين التي تسيطر على اغلبية الشركات المستخرجة للنفط في الجنوب ، هل ستلعب دور ما من اجل حفاظ مصالحها ؟؟ كذلك ما موفق الشركات النفطية العالمية العابرة للقارات مثل شركة النيل و التوتال ؟ . . في تقديري ان القوى الاقليمية والدولية ستكون لها تأثير كبير في عملية تقرير المصير ، سوى كان عبر الية حماية الاستفتاء او بتأثير في نتيجة الاستفتاء النهائية ، اما الاحزاب السودانية باستثناء الحركة الشعبية لتحرير السودان والموتمر الوطني فلن يكون عندهم دور مقدر في تقرير المصير .