logo

ترى معظم مناضلات وقيادات الحركات النسوية الافريقية : ان السبب الرئيسي لتهميش وتخلف وضع المراة سياسياً في افريقيا ودول العالم الثالث يعود الى السلطة الاستعمارية التي استندت السلطة على رجال ، يمثلون الايديولوجية الرجولية في بلدانهم .فحولوا ملكية الارض لمصلحة الرجال ضد مصالح النساء .وإختاروا زعماء القبائل والعشائر من الرجال ليمثلوا القيادة السياسية المحلية
وادخلوهم في العمل المأجور وتركوا النساء يصارعن الإقتصاد المعيشي ورئاسة مؤسسة الاسرة بكل مسئولياتها ، خصوصاً بعد هجرة الرجال لمواقع العمل الماجور في الزراعة والتعدين ، وميزوا الرجال في فرص التدريب و التعليم ، واغرقوا اسواق المستعمرات بالبضائع المستوردة من مراكز الاستعمار بأسعار وكميات دمرت البضائع المحلية البسيطة ، والتي هي نسائية الصنع بالدرجة الاولى ، وابعدوا المراة من المنافسة فاصبحت النساء بلا موارد نقدية او حتى التبادلية . وفي اعتقادي فإن هناك بعض المؤثرات وقفت امام درب تطور المراة واسهم بشكل غير مباشر في تهميش وتخلف وضع المراة الافريقية والسودانية بصفة عامة والمراة في جنوب السودان بصفة خاصة . فمثلاً العادات والتقاليد لبعض القبائل الجنوبية تقف عائق امام مساواة الرجل مع المراة كما تعطي كل السلطات والقرارات للرجل . بالإضافة الى للاصولية الدينية المتطرفة واطماع او صراع النخب السياسية الرجالية حول السلطة في حكومات الوطنية التي عاقبت على السلطة بعد جلاء الاستعمار في معظم بلدان الافريقية ونسوا دورالمراة التي شاركت معه في وقت ثورات التحررية ضد المستعمر .

وتقول الدكتورة فاطمة بابكر في كتابها "المراة الافريقية " ان في وقت الذي كانت المراة البريطانية تلقي حظاً كبيراً من التعليم وتنشئ تنظيماتها المتعددة وتصدر الكتب والمجلات والنشرات : كان الاستعمار البريطاني صامتاً عن حق المراة السودانية في التعليم وفي العمل خارج المنزل ، فلقد بدات التعليم النساء في شمال السودان بداية متواضعة بواسطة البحثات التبشيرية المسيحية ، لكن تعليم المراة في الشمال لم تبق مقصوراً على ذلك ، بل بدات معركته عندما تقدم عدد من اوليا الامور المصريين والسودانيين بعريضة للسلطة الاستعمارية في العام 1906م مطالبين بضرورة إنشاء مدرسة للبنات . وفي العام 1908م تحت ضغط الوطني المتزايد سمحت للمربي بابكر بدري بفتح مدرسة للبنات في منطقته وبدات تعليم البنات تخطو بخطوات بطيئة نحو مستقبل مشرق . وكانت اول إمراة تلتحق بكلية غردون التذكارية وقتها (جامعة الخرطوم حالياً ) في العام1945م هي الاستاذة إنجيل إسحق من طائفة الاقباط وتخرجت في العام 1948م ثم تخرجت من بعدها طبيبات ( خالدة زاهر ، وزروي سركيان ) وبدات التحاق الطالبات بالتعليم العالي تذداد تدريجياً . و تسارعت في الاعوام الاخير بشكل ملحوظ ازعج فئات عديدة . ففي العام 1995م كانت نسبة البنات في التعليم العالي تشكل 40.5 % ثم قفزت في العام 1998م الى 48% من جملة المجتمع الطلابي في مؤسسات التعليم العالي ، وفي وقت الراهن فإن نسبة المئوية للطالبات في الجامعات والمعاهد العليا لا تقل عن 60 % من مجموع الكلي وهن تشكلن الاغلبية في كليات العلمية مثل ( الطب ، الهندسة ,الصيدلة ، الاسنان ،المختبرات الطبية والعلوم التطبيقية الاخرى ) كما لا تقل عددهن عن الرجال في كليات العلوم الاجتماعية .

على مستوى الحركة النقابية السودانية ، فالمراة كانت لها دور تاريخي وإسهام فعال . فالممرضات كن اول قسم من النساء العاملات بأجر يتمكن من تنظيم مظاهرة من اجل حقوقهن مع زملائهن في نقابة عمال وزارة الصحة ، وفي العام 1955م فازت إحدي الممرضات في انتخابات اللجنة المركزية للنقابة واصبحت عضواً فيها . كم تم تكوين "إتحاد نساء السوداني " في مطلع العام 1952م بفضل من الاستاذة( عزيزة علي مكي) التي كانت صاحبة الفكرة ومساهمة ايضا من بعض الطليعيات اخريات .واختيرت الاستاذة فاطمة طالب اسماعيل كأول رئيسة للإتحاد .ثم كان هناك حماس من شخصيات قيادية ذات قدرات تنظيمية ووعي سياسي عالي ، وتمثل ذلك في شخصية الدكتورة: خالدة ذاهر الساداتي التي شاركت في اول مظاهرة ضد المستعمر في العام 1946 م ، و هي تعتبر اول إمراة تعتقل لاسباب سياسية . وتميزت حركة "اتحاد النسائي " في المرحلة الاولى ما بين العام 1952 حتى 1965م بطرحها برنامجاً يدعو للتقدم الاقتصادي والاجتماعي ، متقدماً نسبياً على تقاليد المجتمع السوداني . ففي مناخ كان من الصعب فيه قبول فكرة تعليم المراة خصوصاً في الارياف ، طالب "الاتحاد النسائي " بتعليم المراة ومساواة الاجور وتغيير قوانيين الاحوال الشخصية . و في وقت كان خروج المراة نفسه للعمل بأجر محل جدل ، نادى " الاتحاد النسائي " بتحرير المراة وعملها خارج المنزل ، كما نادى كذلك بمحاربة العادات الضارة مثل الشلوخ وغلاء المهور والانفاق البزخي بصورة عامة في المناسبات كالزواج والوفاة .....الخ

وكان الاتحاد وقتذاك مهتماً بمسألة الوعي ومحاربة الامية ، فقام بالترويج لبرامج محو الامية على المستوى القومي . و لقد إستنفرت "الاتحاد النسائي " النساء في جميع انحاء البلاد للخروج في المظاهرات ضد الحكم العسكري للنظام الجنرال عبود ، فسجلت المراة حضوراً واضعاً مرددت هتافات الجماهير بسقوط النظام وبالتطهير في جهاز الخدمة المدنية والدولة . وبرزت ناشطات نسويات في المشاركة و قيادة الاضرابات ... ونظراً لحضور العالي للمراة إبان ثورة أكتوبر ومشاركتها منذ الفترة الاستعمارية ، إنتزعت المراة السودانية جزءاً اخر من من حقوقها السياسية في الانتخابات والترشيح . كم اصدرت الحكومة قراراً بمنح حق المراة السياسياً وكانت أول مرة تعترف فيها الدولة بدور المراة في المجتمع السوداني ومساواتها تدريجياً بالرجل المتعلم في الحقوق السياسية . وكان تتويجاً لحملة إستمرت ما يقارب زهاء العقدين من الذمان . فعندما تم تنفيذ بنود الاتفاقية البريطانية -المصرية الخاصة بإستقلال السودان في العام 1953م فيما يتعلق بالإجراء إنتخابات نيابية لتكوين اول حكومة بعد الاستقلال اضاف "الاتحاد النسائي " لاهدافه المطالبة بالحقوق السياسية للمراة ، فوافقت لجنة إنتخابات الدولية بمنح المراة "حق التصوت " للخريجات التعليم العالي فقط ... ، وتواصلت من بعدها حملة الاتحاد الى ان نالت "حق التصويت والترشيح "في دوائر الخريجيين ، وعلى التصويت فقط في دوائر الجغرافية في العام 1965م في نفس العام ترشحت الاستاذة فاطمة احمد إبراهيم عضو قيادة الحزب الشيوعي ورئيسة تحرير صحيفة صوت المراة في إنتخابات دوائر الخريجيين كمستقلة وفازت لتصبح اول إمراة تنتخب لبرلمان السوداني... وعلى العكس من الانطباع السائد لم تنل المراة السودانية حقها الانتخابي كاملاً " الترشيح والتصويت " في كل الدوائر إلا خلال إنتخابات مجلس الشعب (البرلمان ) الاول في العام 1978م بمشاركتها في الدوائر الجغرافية وللمرة الولى في عهد الجنرال جعفر نميري .

. وقد إستطاع الاتحاد النسائي السوداني المساهمة بالفعالية والى حد كبير في تغيير النظرة الاجتماعية لدى اقسام واسع من الراي العام في البلاد . وقد قوبلت هذه الخطوة بالتأييد والترحيب من جانب الهيئات الجماهيرية ، كما قوبلت في الوقت نفسه بحملة عنيفة من جانب الدوئر الرجعية والاصولية الدينية والعناصر المتخلفة والمتزمتة ، فظهر تيارين متعارضعين فيما بينهما حول قضايا تحرر المراة ، فالحزب الشيوعي السوداني وحركة الجبهات الديمقراطية كتيار من جهة كانا تقفان مع قضايا المراة واخوان المسلميين مع العناصر الرجعية من جهة اخرى تقفان ضد تحرر المراة ، بل كانوا لا يؤمنون بعمل المراة خارج المنزل الا عند الضرورة القصوى ويعتبرون الرجال لهم حق القوامة على النساء ،كما عرفوا المراة على انها كائن تختلف بيولوجياً عن الرجل ، و لابد ان يقتصر دورها على ما يتوافق مع هذا الاختلاف البيولوجي كما تبنوا تحرراً للنساء لا يتعارض في تقديرهم مع تعاليم الاسلام.

في عهد نظام مايو عينت الحكومة اول وزيرة في تاريخ السودان فأصبحت الدكتورة فاطمة إبراهيم عبد المحمود وزيرة للشئون الاجتماعية وبرغم تلك الحادثة التاريخية ونقلة النوعية لتعيين اول وزيرة من عنصر النساء في عهد نظام الرجل الواحد ( نظام جعفر نميري) الا ان قد تغير النظام عن نظرته تجاه المراة في العام 1983 م بعدما نجحت جبهة الميثاق الاسلامي في فرض برنامجها واجندتها الاسلامية على سلطة الجنرال نميري ، عندما اعلنت الحكومة في سبتمبر منذ ذلك العام عن قوانيين الشريعة الاسلامية ، و اصبحت المراة يتلاحق و يتم التأكد من هوية اي رجل يسير معها في الشارع .وابتدعت تهمة الشروع في الزنا لمحاكمتهن وإذلالهن بالجلد المقنن واصبح التحرش بالنساء في الشوارع ، واقفلت اماكن الترفية المختلطة ومنع الاختلاط في تلك التي ظلت مفتوحة ..وشددت الرقابة على الافلام والاغاني ، وكانت تحدث بسبب ذلك مضايقات يومية طالت الملاحقة حتى المسيحيات والمواطنات من جنوب السودان ليلتزمن رغم انفهن بلباس لم يعهدنه في حياتهن قط.


اما المراة الجنوبية فإنها لن تنل حظها من التعليم مقارنتة برصيفتها في الشمال كنتيجة لسياسات سلطة الاستعمارية التي ركزت التعليم في شمال الدولة ، اي في المركز على حساب الهامش . تلك السياسات اتبعتها حكومات الوطنية التي تعاقبت على السلطة في بعد خروج الاستعمار من السودان ، فركزت التنمية في الخرطوم ونتجت عنها تخلف المناطق الطرفية مثل الجنوب ، جبال النوبا ، وتلال انقسنا بالاضافة الي مناطق النوبا في اقصي شمال السودان مما خلق الصراع والإقتتال مستمر بين الهامش والمركز . وحتى وقت الراهن ما زالت نسبة المراة الجنوبية ضئيلة في مؤسسات التعليم العالي . لكن برغم من ضعف تعليم المراة في المناطق المهمشة ، فمساهمتهن في الناضل و ودعم ثورة التغيير تظل كبيرة مقارنتة بنساء الشمال والمركز اللاتي وجدن حظاً اوفر من التعليم .

بالاضافة لسبب الذي ذكرته انفاً ، فإن العادات والتقاليد و نظرة الاباء الذين لم يتلقو ا التعليم نحو تعليم وتحررالمراة تشؤبها كثير من التشاؤم ... فالمراة الجنوبية ساهمت بشكل فعال في دعم النضال والتحرر منذ ثورة توريت 18/8/1955م حتى ثورة الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان 16/5/1983م . حيث وقفت مقاتلات الجيش الشعبي في ساحات القتال بصمود وشراسة وكانت تقع عليهن مسئولية اكبر مقارنتة بالرجال ، فبينما كن تشاركن الرجال في القتال بفعالية لا تقل عن التي يقدمها الرجال ، كان تقع علي عليهن كذلك مهمة الاطفال و الاطعام . فكان من طبيعي جداً ان عند قيادة الحركة بعد ابرام اتفاقية السلام الشامل ان تخصص نسبة 25% من السلطة والثروة للمراة في كل مستويات الحزب والحكومة ، مما اربك دوائر كثيرة من الاحزاب السياسية السودانية المعادية للحركة الشعبية بعد ادخال أدب الجديد الذي اضافتها الحركة للساحة السياسية السودانية من تقسيم الثرواة بين الرجل والمراة . فقامت القيادة بتعيين الرفيقة د.آن إيتو كنائب الامين العام للقطاع الجنوبي للحركة الشعبية لتحرير السودان وفازت بنفس المنصب في المؤتمر الثاني ، كذلك عينت رفيقات نافذات في اجهزة حكومة الوحدة الوطنية وحكومة الجنوب وحكومات الولائية . ولما رات المؤتمر الوطني الادب السياسي الجديد قررت القيادتها تغيير تعاملهم مع المراة ليواكب التغيير في الساحة السياسية و انتخبوا المراة رئيساً للقطاع الجنوبي بالمؤتمر الوطني .. وفي تقديري ان هذا الادب ( مشاركة عنصر النسوي في قيادة الحزب ) ترجع لقيادة الحركة الشعبية كأول من وقفوا مع المراة وعطاها حقها .

رغم ما تمت تطبيقها من نسبة 25% المخصصة للمراة . في اعتقادي ان هناك مستوى واحدة لم تتم فيها تطبيق تلك النسبة ، وهي مستوى المقاطعات . ففي مقاطعات على مستوى ولايات الجنوبية المختلفة .لن توجد امراة اتقلدت منصب " المحافظ " في اي مقاطعة من جملة مقاطعات ولايات الجنوبية ، بتالي نناشد المراة كي تأخذ حقها كاملة في كل المستويات التنظيمية واجهزة الحكومة ، كما نناشد الرفاقي في لجنة الحركة الشعبية للانتخابات ان يخصصوا دوائر محددة في كل المستويات للمراة في الانتخابات المقبلة .


د. البينو اموم اوين

طبيب بمستشفى الخرطوم التعليمي

قسم الباطنية