Written/Submitted by Emmanuel Dol
Category: المقالات العربية
Hits: 8236

peaceايمانويل جون بول
طالب شعب جنوب السودان بدولته المستقلة وكان الحلم يراوده بالاستقرار والتنمية والعدالة ، وحقن دماءه التي روت الارض لأكثر من خمسين عاما ، وكان مهر الاستقلال ارواح مئات الالاف والتشرد في دول الجوار والتجوال داخل الغابات مع الوحوش وهوام الارض ، وأرتالا من الايتام والارامل فقدوا العائل ، وقرى تدمرت وأخرى أحترقت تحت وابل نيران الظلم والتسلط من قوات دولة السودان القديم.

تضحيات جسام لا يقدمها شعب مثل شعبنا البطل ، شعب بذل الغالي والنفيس لكي ينال استقلاله ويكوّن دولته المستقلة .
ظن الناس انهم قد استراحوا من ذلك الماضي الكئيب بعد نيل الاستقلال ، لكن يبدو انهم كانوا متفائلين أكثر من اللازم فتبعات ذلك الماضي تطاردهم كالشبح ولا يستطيعون منها الفكاك حتى الان ، ولكي يتحقق الاستقلال الحقيقي ونقطف ثماره علينا ببذل المزيد كما علمنا القائد قرنق ، فالسلام يحتاج لجهد أكبر من جهد الحرب ، وشعبنا لازال يعاني من الجهل والامية وتتحكم فيه العاطفة القبلية والعرقية وهذه الاشياء كفيلة بمنعه من النهوض ما لم نضع الخلاص منها في اولوية اهتماماتنا.

نفس الاسباب التي دفعت اباءنا واخوتنا المناضلين لحمل السلاح ضد السودان القديم لازالت ماثلة بل أضحت أفظع وأمر، فالظلم الآن نتجرعه من أيدي أخوتنا ! صارت اليد التي تقتل شعبنا هي نفس اليد التي حملت السلاح لتأتينا بالاستقلال فيا للأسف.

حب التسلط والسيطرة وعشق السلطة أنست من كانوا مناضلين الاهداف الحقيقية للجيش الشعبي ، وانستهم شهداء الثورة وعلى رأسهم القائد قرنق .
القائد قرنق يتململ الآن في قبره بسبب أفعالكم جميعا ، حكومة ومعارضة ، تركتم معركة التنمية والتعليم والبناء وخلقتم معارك حمقاء لا تموتون فيها أنتم واتباعكم لوحدكم بل يموت فيها المواطنون المساكين ، جعلتم الانتماء للقبيلة جريمة تستوجب العقاب القاسي ، ونسفتم استقرار البسطاء الذين حمل القائد السلاح ومات من أجلهم!

علينا أن نبحث عن الاسباب الاساسية التي جعلت الاخوة يتقاتلون بهذه الطريقة الهمجية المؤسفة ، وقد اهتديت كباحث وسياسي الى أن حب الحكم والرغبة في السلطة وطموح السياسيين هي السبب وراء كل الاحداث والمجازر التي ارتكبت ضد الاهالي . منهم من تحركه نية خالصة لخدمة الشعب ومنهم من تحركه أجندته وطموحاته الشخصية . وهنا لا اتهم أحدا بعينه فبمقدور كل من يسمع أو يقرأ الآن أن يصنف من أعنيهم.

يجب البحث عن صيغة حكم تتراضى كل الاطراف عليها ، صيغة حكم تكون مقبولة للجميع ، لا يحس شخص بعدها بأنه مقهور أو مهمش ، فمن حق أي مواطن جنوبي بغض النظر عن قبيلته سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، من حقه أن ينافس في شغل المناصب طالما هو مؤهل ، ويجب أن لا يكون المعيار في اختيار المسئولين هو انتماءاتهم القبلية بل يجب ان يكون المعيار هو المؤهل والقدرات، حتى لا نمنح السلطة لضعاف النفوس الذين يسيئون استخدامها ، فأهم المعايير للسياسي الناجح هي الوعي التام بقضايا الشعب والتجرد من العصبية ونظافة اليد والحس الوطني وحب البلاد. وما غير ذلك يهون.
الحكم المركزي القابض الذي يمارس الوصاية والقمع هو السبب في رفع الناس للسلاح في دولة السودان القديمة ويجب أن لا نكرر نفس الاخطاء في دولتنا الوليدة ، فتكرار الاخطاء ضرب من الغباء .

يجب أن نكون اكثر تعقلا وعلينا الاستفادة من الاخطاء القديمة كي نجنب بلادنا الحروب والصراعات الاهلية، وفيما يلي سأوضح رؤيتي لطريقة الحكم والتقسيم الاداري لدولة الجنوب كحل لازمة السلطة والثروة.

معلوم ان المعارضة قد طرحت فكرة تقسيم البلاد الى (21) ولاية تتبع للسلطة المركزية في جوبا وفق نظام فدرالي يعطي كل ولاية نوع من الاستقلال الذاتي ، وبذلك فان كل ولاية تكون وحدة شبه مستقلة لها تشريعاتها ونظامها الذي يختاره ابناءها بحرية دون تدخل من المركز ، أي انشاء نظام شبيه بالنظام الامريكي والإماراتي .وأرى حسب تجربتي ودراستي وزياراتي لكلتا الدولتين (أمريكا والامارات) أن هذا النظام من التقسيم لا يصلح في حالنا وذلك لأسباب موضوعية يمكن تلخيصها في النقاط التالية :

1- التقسيم الى 21 ولاية يزيد من حجم الانفاق العام ويرهق خزينة الدولة ، فوجود هذا الكم الكبير من الولايات يعني وجود عدد 21 واليا يتبع كل والي عشرات الوزراء والمستشارين والمحافظين ورؤساء المحليات ..الخ
أي وجود جيش جرار من الدستوريين لكل منهم مخصصاته وصلاحياته ومرتبات عالية وصرف اداري ونثريات وغيرها مما يبدد اموال طائلة نحن نحتاجها للتنمية والخدمات المقدمة للمواطنين كالصحة والتعليم والبنية التحتية وبناء الجيش وتسليحه ليكون قادرا على حماية الدولة . فهذه الامور هي الاولى بالصرف بدلا عن صرفها في ترضيات (فارغة) .
ايضا وجود عدد كبير من الدستوريين معهم حصانات يزيد من فرص الفساد المالي والاداري مما يضعف الدولة ويزيد من معاناة المواطنين، ومعاناة المواطنين ستفتح علينا أبواب الجحيم .

2- التقسيم الى 21 ولاية سيزيد من النعرات القبلية والعرقية ، فحينما يجد ابناء كل قبيلة نفسهم محصورين في وحدة معينة سواء كانت ولاية او محافظة سينعزلون عن بقية القبائل مما يمنع فرص التعارف والترابط وفهم الاخرين ، ويزيد من الجفاء والرفض للآخر .
ومن الملاحظ في كل العالم أن الدول التي تحدث فيها الصراعات والاضطرابات هي الدول ذات التركيبة القبلية التي لم تصل بعد لمرحلة الدولة القومية التي لا يسأل مواطنوها بعضهم السؤال التقليدي : ( جنسك شنو؟ أو قبيلتك شنو؟).
فلكي تتحول الدولة الى دولة قومية لابد من تصاهر السكان وتزاوجهم واختلاطهم مع بعضهم الى أن تزول الفوارق القبلية والعرقية وينسى الناس موضوع القبيلة كما هو الحال في الدول الاوربية.

3- التقسيم الى 21 ولاية يعسر عملية الانتخاب وممارسة الديموقراطية ، فعلى سبيل المثال هنالك بعض المناطق يصعب الترويج فيها للبرامج الانتخابية لمرشحين لا ينتمون لها (ليسوا من نفس القبائل القاطنة فيها) وقد يكون المرشح منتميا لحزب لا يوجد شخص واحد مؤيد له ربما في محافظة بكاملها!! فكيف يمكن له الحصول على الاصوات ليكون ممثلا للكل . وبذلك لابد للأحزاب أن تصطبغ بالصبغة القبلية وهذا هو التخلف بعينه.
4- التقسيم بهذه الطريقة سيؤدي الى خلق نوع من التهميش والافقار للمناطق التي لا توجد فيها موارد مهمة ، أو قيمتها متدنية اذا ما قارناها على سبيل المثال بالمناطق النفطية يمكن أن نرى الفارق الكبير في الدخل مما سيخلق مستوى معيشة لبعض المناطق أعلى بكثير من مناطق اخرى وسيؤدي هذا الامر الى حدوث النزوح والهجرات من المناطق الفقيرة الى الغنية ،فتنجم مشكلات جمة يعرفها المتخصصون في علوم الهجرة والاقتصاد جيدا ، وابرز هذه المشكلات النزاعات العرقية وتفشي الجريمة والسكن العشوائي وغيرها.

لكل ذلك فهذا الطرح أجده غير ملائم لطبيعة دولة الجنوب ولابد من ايجاد صيغة أخرى أكثر ملائمة.
أيضا سنتعرض للطرح الذي تتبناه الحكومة وهو تثبيت النظام الحالي ، وأرى أن للنظام الحالي سلبيات كثيرة سأوضحها كالتالي:

1- التقسيم الحالي خلق نوع من المحاباة لبعض المناطق واهمل وهمش مناطق أخرى وهو السبب خلف النزاعات الدموية التي نعاني منها ولابد للسلطة من الاعتراف بأخطائها مثلما يجب على المعارضة علي حد سواء . وسنذكر بعض السلبيات التي خلفها النظام الحالي مثل مشكلة مدينة بيبور ومشكلة واو وبعض مناطق الشلك التي ادخلت في ولاية جونقلي -دون بحث ودراسة - مثل منطقتي فيجي وعطار وبعض المناطق التي هي محل نزاع بين محافظتي ماكال و أكوكا .
2- التقسيم الحالي (10 ولايات) يسبب نفس المشكلات التي اشرنا اليها في التقسيم السابق فالإكثار من عدد الوحدات يزيد من الصرف الاداري وتنجم عنه مشكلات مالية وادارية.

بعد كل ما ذكرته طبيعي أن تتساءلون : طالما أنك قد عبت ونقدت ما طرحناه فماذا لديك ؟!
سأبين وجهة نظري أو رؤيتي لحل ازمة الادارة والتقسيم باختصار شديد وهي جهد فردي يمكن بحثه وتطويره من جانبكم ، فإن وفقت الحمد للرب القدير الذي في السموات ، وأن اخفقت يكون لي ثواب المحاولة.

أولا :
اتفق مع المعارضة في الطرح الذي قدموه بخصوص اعتماد النظام الفدرالي ،
وفي النظام الذي اقترحه أرى ضرورة تقليص عدد الولايات الى ثلاث فقط (سواء تقرر تسميها ولايات أو أقاليم او حكومات) وتكون حدودها هي حدود الاقاليم الثلاثة القديمة في العام ( 1972م). وهي اقاليم بحر الغزال الكبرى ، والاستوائية الكبرى ، واعالي النيل الكبرى.
فحدود هذه الاقاليم تضم داخلها اكثر من قبيلة وبذلك تتاح الفرصة للتفاهم والترابط والتماسك الاجتماعي اذا ما شجعت الدولة الزواج بين القبائل وخلقت كيانات اجتماعية ورياضية وثقافية تضم ابناء القبائل لتجمعهم نشاطات اخرى مفيدة غير النشاطات القبلية التقليدية. وتكون روح الانتماء للإقليم بديلة للروح القبلية.
وتقليص عدد الولايات يقلل من الصرف المالي والاداري الذي اشرت اليه في السابق ويوفر الاموال لكي نوجهها لخدمة المواطنين والتنمية بدلا عن ان نخلق بها سياسيين يعيشون في ابراج عاجية بعيدا عن المواطنين .

ثانيا :
يمكن اعتماد نفس الواحد وعشرون مركزا التي كانت موجودة في زمن الانجليز والتي قسموها بعد دراسات تراعي خصوصية كل مركز.
فنفس هذه المراكز يمكن اعادة تسميتها لتكون" مقاطعات " فعدد المقاطعات الحالي يبلغ (79) مقاطعة ووفق التقسيم المقترح سيكون عددها فقط 21 مقاطعة . وبالتالي سيحدث نوع من الدمج مما يقلل الصرف كما اسلفت .

ثالثا: الفترة الانتقالية :

1- اقترح الاخوة سواء بالمعارضة أو الحكومة بأن تكون مدة الفترة الانتقالية ما بين سنتين الى سنتين ونصف وهم منساقون خلف عاطفتهم تحركهم شهوة السلطة وتصفية الحسابات عبر صناديق الاقتراع ،ويتعجلون حسم أمر السلطة دون مراعاة للواقع، لكن أرى أن هذه الفترة غير كافية لغسل مرارات الصراعات الحالية من قلوب الضحايا ، ولنسيان ما حدث من سفك للدماء ونزوح وتشريد طال عشرات الالاف من الاهالي ونشر احقادا قبلية واجتماعية .
فلكي يعود للناس صفائهم واستقرارهم النفسي لكي يستقبلوا مرحلة جديدة ويستوعبوا ما نرمي اليه ، هم بحاجة الى فترة اكثر من هذه الفترة التي اقترحتموها .

فالسنوات بميزان الشعوب والسياسيين قصيرة جدا والوقت يمر بسرعة شديدة امام من يدير شئون الناس وكل ممارس للسياسة يستوعب ذلك ويفهمه.
عليه أود أن تكون الفترة الانتقالية من خمس الى ست سنوات ولأطراف التفاوض الحق في اعادة النظر في أمر مدة الفترة الانتقالية .
ولكم التقدير جميعا حكومة ومعارضة ،،،،

"ايها القدير انك رحيم فوفقنا لما فيه الخير لأبنائك "