logo

الباريا في مسيرة احتجاج في شوارع جوبا - copyright Africanews.com  بقدر ما انه شئ محزن و يبعث علي الاسي في نفس الوقت ، فانه أيضاً شئ محير ، ذلكم هو إستمرار المسلسل الدموي الذي ظل يدور فصوله في أكثر من مكان في جنوب السودان منذ التوقيع علي اتفاقية السلام مع الشمال ، و ظل يحصد في كل مرة يطل برأسه ، أرواح الناس سمبلة. و كأنا في غابة يعمل فيه القوي قانونه علي الاخرين ، و لسنا في دولة لها دستور و قوانين تنظم علاقات المواطنين و تقنن معاملاتهم اليومية. لا يخفي عليكم أعزائي القراء انني أعني بهذا المسلسل الدموي ،خلافات الاراضي . ففي خلال الأيام الاخير ة الماضية حتي لا ارجع بكم الي الوراء ، إصطرعت قبيلة الباريا مع عناصر قيلت بحسب الرواية الشائعة انها من قبيلتي الدينكا و النوير . و كان محور الصراع يدور حول ملكية اراضي متنازع عليها في قرية كوميرو و هي من أعمال مدينة جوبا . و قد نتج عن الصراع الذي استخدم فيه السلاح سقوط ضحايا بلغ عددهم عشرة اشخاص بينهم اطفال. الامر الذي ادي الي حالة من الهياج و الاحتقان في جوبا ، و خرج اهالي الضحايا و كلهم من الباريا خلا شخصان ، خرجوا يوم الثلاثاء الماضي يجوبون شوارع المدينة بجثث ذويهم في موكب يفطر له القلب ، و قد رفعوا شعارات منددة بما سموه صمت السلطات علي عملية اطلاق النار لمدة ثلاثة ايام متتالية!!

صحيح أن كوميرو تعد ارضاً للباريا بلا منازع و لكن الذي يذهب الي هناك يجد المنداري و الدينكاوي و النويرواي و غيرهم من القبائل الاخري قاطنين فيها ، و في بيوتهم التي يقولون إنهم اشتروها بحر مالهم من المجتمع الاصلي للمنطقة. و المنطقة امتداد بحسب السلطات لحي قوديلي الشهير، او ان قوديلي جزء منها ، و يعود تاريخ السكن فيها الي حقبة ما قبل الاستقلال أو كما قال احد اعضاء البرلمان الاربعاء اثناء الجلسة التي خصصت لمناقشة القضية . و يقول العالمون بدهاليز القضية ان اولئك الذين يراد طردهم من هذه المنطقة الان ، تحصلوا علي الاذن بالبناء هناك من سلاطين المنطقة! و بالطبع فان نفس السلاطين هم من ينتفضون ضدهم الان. وفيما اوقف حاكم الولاية في وقت سابق قرار أزالة الحي ، مضي مكتب عمدة مدينة جوبا مدعوماً من المجتمع المحلي في تنفيذ قرار الازالة . و قد اثبتت التجارب ان حوادث الاراضي في جوبا عندما يتم وضع عناصر ها تحت المجهر لا تصمد امام الفحص الدقيق !! فما يسمي هنا دائماً بنهب الاراضي لا يكون في الواقع سوي عملية نهب معكوسة للمال من قبل السلاطين الذين صاروا سماسرة اراضي اكثر منهم حكماء لمجتمعاتهم . فهم بحكم سلطاتهم يوزعون الاراضي لمن يرغب في شرائها ولكن مايحدث في الغالب- و ذلك بحسب رويات كثيرة لاناس خبروا الحكاية - هو ان السلاطين يتنصلون من الالتزام بالعهد في احيان كثيرة خوفاً من اختلال الميزان الديمغرافي بمناطقهم لصالح مجموعات اخري وافدة ! فقس الامر وأسقطه علي بلدة كوميرو و كيف كانت النتيجة مروعة. هذا بالطبع لا ينفي وجود مجرمين تخصصو ا و ابرعوا في النهب الممنهج لاراضي الغير من غير العودة الي السلطات ، ولكن تعميم الحكاية علي قبائل بعينها علي ان منتسبيها كلهم من معتادي اخذ حق الغير عنوة ، هو اسفاف و شطط القول . قضية كوميرو يمكن قرأتها بناء علي ما تقدم، و هو في هذه الحالة تصنف علي انها خيانة امانة من السلاطين او شئ من هذا القبيل . ففي الطرف المقابل بحسب معلومات استقيتها من مصادر لصيقة و لم يتسن لي التأكد من حيادتها بسبب التشويش القائم في هذه القضية، فإن سلاطين الباريا يقولون ان نظرائهم من المنداري باعوا الارض للغرباء وهو اتهام لم تنفيه او تؤكده المنداري علي حال من الاحوال!!

و كما تابع الناس بكل اسي العدد المخيف من الضحايا الذين سقطوا في تلك المواجهات التي دارت رحاها في جنح الليل و إستمرت لمدة ثلاثة ايام من الانتقام و الانتقام المضاد، فإن الاكثر إخافة هو وقوف السلطات عاجزة عن وضع حد لمثل هذا الموت المجاني غير المبرر . و الاكثر اثارة للاستغراب هو وقوف قوات الشرطة متفرجة مكتوفة الايدي طيلة الثلاثة ايام دون ان تحرك ساكناً و هي تسمع اصواتا الاعيرة النارية الكثيفة بالليل و تري الجثث في الصباح كما تسمع نحيب الامهات المر . نحن لدينا قانون لحيازة الارض، و مفوضية إسمها مفوضية الاراضي و مصلحة اخري تسمي مصلحة الاراضي ، فلماذا يموت الناس بهذه الاعداد المخيفة بسبب خلافات حول الاراضي؟ نحن في أمس الحاجة الي تفسير ما تعنيه بالضبط عبارة " الارض ملك المجتمع " التي وردت في اتفاقية السلام و ضمنت في الدستور ، ونريد شرح دلالاتها بصورة محكمة للشعب حتي يفهم جيداً ما تعنيها، خاصة وانها- اي العبارة إياها- صارت قميص عثمان بالنسبة لبعض المجتمعات قصيرة النظر ، و اني لعلي يقين ان المشرع الذي سن هذه العبارة لم يرم يومها الي ما نحن نراه اليوم . فاذا فتح باب مزايدات الاراضي علي مصراعيه بهذا الاسفاف و بعد النظر فيما يتعلق بفهم القانون فسننتهي حتماً الي انقسام و سيكون ذلك كارثة علي امتنا التي لا تزال طفلاً يحبو .

أقول هذا الكلام لانني - كما الاخرين _ حريص علي عدم انزلاق بلادنا الي فتنة قبلية . اما الاخرين الذين لا يفهمون مالات مثل هذه التعميمات الخاوية ، فهم الذين بدأوا يتحدثون هذه الايام عن كوكري جديد ، معيدين الي الاذهان تلك الانتكاسة القومية التي حاك خيوطها ابان حقبة اديس ابابا سياسيو ن لم يكن نظرتهم للمستقبل تتعدي موطئ اقدامهم ، و انتهت الي ما انتهت اليه في ذلك الزمان من احداث شرخ كبير في لحمة الجنوبيين ، أستطيع الجزم ان بقاياه لا تزال عالقة حتي اليوم في نفوس البعض منا. و ان اردت التأكد من ذلك فما عليك ان كنت تنتمي الي واحدة من القبائل خارج منطقة الاستوائية الكبري ، و اخص بالاسم القبائل النيلية، الدينكا ، النوير و الشلك ، ان تذهب الي اقرب وكالة لاستئجار المنازل في جوبا او الي اقرب سمسار منازل ، و أسأل عن الايجار ، سيسألك عن مجموعتك العرقية و عندما يعرف انك من القبائل "المنبوذة " لديهم ، فسيقول لك ان وكيله لا يؤجر عقاراته لهذه القبيلة او تلك!! هذا الكلام عزيزي القارئ لم يعد سراً لمن يعيشون في مدينة جوبا هذه الايام!! ولكنه ليس كلاماً عاماً ينبطق علي كل الاستوائيين فهم بشر أيضاً ، فيهم الانسان الصالح و الانسان الطالح . و لكن مجرد ان يتعامل معك شخص علي اساس عرقي في امور تجارية بحتة هو شئ مقرف بالفعل .

إنني اريد التشديد هنا ان نهب الارض عمل اجرامي مدان أياً كان من يقوم بذلك ، و هو موجود حتي بين المجتمعات التي تتكلم نفس اللغة و تدين بنفس المعتقدات . و التعامل مع المجرم او المذنب وفقاً لقبيلته او جنسيته او دينه هو أيضاً عمل مرفوض قانوناً و انسانية . فحاولات تنميط قبائل بعينها و تنصيفها علي انها لا تؤتمن بالتالي يجب عزلها كما يؤمن اليوم بعض الاستوائيين السذج، عمل اعمال الصغار و لا يفضح الا صاحبه . و في النهاية اريد ان اذكر الجميع اننا نحن الجنوبيون كنا ننتفض ونرفض تلك الاساليب عندما كان سئ الذكر الطيب مصطفي – و لم يزل – يبثها عبر صيحفته الصفراء في الخرطوم. فماذا نعيد انتاج مثل هذه الاساليب فيما بيننا اليوم.

بقلم : كيمي جيمس